منذ سنوات الحرب الباردة طوال النصف الثاني من القرن العشرين ظلت الولايات المتحدة لاعبا رئيسيا في جميع ملفات منطقة الشرق الأوسط، وأصبحت إما حليفا وصديقا وثيقا لبعض دوله، أو عدوا لدودا للبعض الآخر.
لكن الأكاديمي والمحلل السياسي حسين أغا الاستاذ المساعد في كلية سان أنتوني بجامعة أوكسفورد سابقا، وروبرت مالي المحاضر في كلية جاكسون للشؤون العالمية بجامعة ييل الأمريكية قالا في تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز (الشؤون الخارجية) الأمريكية إن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وعلى مدى عقود اعتمدت على الأكاذيب والتضليل أكثر مما استندت إلى الحقائق والشفافية.
ولم تتغير السياسة الأمريكية في المنطقة عند التعامل مع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة والتي تحولت إلى واحدة من أشد الحروب المعاصرة دموية. ففي أي يوم من عامها الأول كان يمكن خروج مسؤول في إدارة الرئيس السابق جو بايدن لكي يقول إن وقف إطلاق النار بات وشيكا، والولايات المتحدة تعمل بلا كلل لتحقيقه، وتهتم بسلامة الإسرائيليين والفلسطينيين على السواء، وإن اتفاقية تطبيع تاريخية بين السعودية وإسرائيل على وشك الحدوث، وكل هذا مرتبط بمسار لا رجعة فيه نحو إقامة الدولة الفلسطينية.
وللأسف الشديد لم يكن أي من هذه التصريحات يحمل أي ظل للحقيقة، واستمرت عمليات القتل ضد المدنيين الفلسطينيين دون أن تقوم الولايات المتحدة بالأمر الوحيد القادر على تحقيق وقف مستدام لإطلاق النار وهو وقف المساعدات العسكرية لإسرائيل إذا لم يتم التوصل إلى هذا الوقف. كما كانت هذه الخطوة أيضا الأمر الوحيد الذي كان من الممكن أن يظهر، التزامًا أمريكيًا بحماية أرواح الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.
وفي التحليل الذي جاء تحت عنوان "الأكاذيب التي تقولها أمريكا لنفسها عن الشرق الأوسط"، قال أغا ومالي إنه كلما مر الوقت، اتضح أن التصريحات الأمريكية كلمات جوفاء، وقوبلت بعدم التصديق أو اللامبالاة. ومع ذلك لم تتوقف عن الإدلاء بها.
وهنا يثور السؤال: هل صدق صانعو السياسات الأمريكيون ما قالوه؟ إن لم يكن كذلك، فلماذا استمروا في ترديده؟ وإن كانوا كذلك، فكيف يمكنهم تجاهل كل هذه الأدلة الصارخة على كذب ما يقولونه؟
لقد وفرت الأكاذيب الأمريكية غطاء لسياسة مكنت إسرائيل من شن هجمات شرسة على غزة، وأشادت بالتحسن البسيط والسريع في الوضع في القطاع الفلسطيني على أنه نتاج الإنسانية الأمريكية. ثم تفاقمت وحشية إسرائيل في ظل إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب، في حين كانت الأكاذيب السابقة قد مهدت الطريق أمام مزيد من الوحشية وتساعد في تطبيع عمليات القتل العشوائية التي ترتكبها إسرائيل؛ واستهدافها للمستشفيات والمدارس والمساجد؛ واستخدام الغذاء كسلاح حرب؛ واعتمادها المستمر على الأسلحة الأمريكية.
لم يكن هذا القتل والموت تحت غطاء أكاذيب السياسة الخارجية الأمريكية أمرا جديدا بالنسبة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وإنما يمتد لعقود مضت تظاهرت خلالها الولايات المتحدة بدور الوسيط في حين أنها كانت متحيزة تمامًا لإسرائيل. كما كذبت عندما قالت أنها تساعد في بناء "عملية سلام" في حين كانت تساهم في إدامة الوضع الراهن وترسيخه بانحيازها الصارخ لإسرائيل.
مع تزايد وضوح الأكاذيب وصعوبة تجاهلها، تضاءل النفوذ الأمريكي. وأصبح الإسرائيليون والفلسطينيون وغيرهم من الأطراف الفاعلة في المنطقة يتجاهلون هذه المسرحية الهزلية الأمريكية، تاركة وراءها التصريحات الأمريكية الجوفاء عن حل الدولتين والسلام والديمقراطية والوساطة الأمريكية - وكما في العقود السابقة، يلجأ الفلسطينيون المفتقدون إلى القيادة، المملؤون الغضب والرغبة في الثأر من الاحتلال الإسرائيلي، إلى أعمال عنف معزولة ضد الإسرائيليين، في انتظار اليوم الذي يتماسكون فيه بشكل أكثر تنظيمًا. وكما كان الحال من قبل، تتحرك إسرائيل، بلا قيود ولا عقال، لتقتل كل فلسطيني تراه صيدا للقتل، فعلت ذلك في السبعينيات في عمان أو بيروت أو تونس أو باريس أو روما؛ واليوم في الدوحة وطهران. وسيكون الأسوأ قادم لطرفي الصراع في حين لن تفعل الولايات المتحدة شيئًا سوى تأمل الدمار الناجم عن الجولات المتتالية من الصراع على حد قول أغا ومالي الذي عمل كدبلوماسي في العديد من الإدارات الأمريكية السابقة.
والواقع والتاريخ يقولان إن السياسة الأمريكية الفاشلة في الشرق الأوسط تمر بمراحل. أولاها النهج الخاطئ، وسوء فهم الموقف، والخطأ المتعمد أو غير المتعمد، كما هو الحال عندما يؤكد المسؤولون الأمريكيون أن أفضل طريقة للتأثير على إسرائيل ليست بالضغط عليها، بل بالمزيد من الدعم لها. وعندما يتدخلون بتهور في السياسة الفلسطينية، بهدف تنصيب مجموعة مفضلة من القادة "المعتدلين"، ليصبح هذا الدعم الأمريكي لهذه المجموعة بمثابة لائحة اتهام لها أمام الناخبين الفلسطينيين فتكون النتيجة فوز حركة حماس على حركة فتح الحاكمة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي أجريت في عام 2006. كما يخطئ المسؤولون الأمريكيون عندما يستبعدون من عملية السلام القوى الأكثر قدرة على عرقلتها، أولئك من كلا الجانبين الذين، لأسباب دينية أو أيديولوجية، يشتركون في التعلق العميق بالسيطرة على كامل أرض فلسطين التاريخية من النهر والبحر، والذين سيعتبرون التخلي عن شبر منها تمزيقا مؤلما للوطن سواء كانوا المستوطنين والقوميين المتدينين الإسرائيليين أو اللاجئين والإسلاميين الفلسطينيين.
والحقيقة أن مشكلة السياسة الأمريكية هي أن صناعها يعرفون الكثير عن الشرق الأوسط لكن لا يفهمون إلا القليل منه . ففي عام ٢٠٠٠، أكد كبار مسؤولي الاستخبارات الأمريكية، للرئيس بيل كلينتون أن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لن يكون أمامه خيار سوى قبول مقترحات كلينتون خلال قمة كامب ديفيد للسلام، وأنه سيكون من الجنون عدم قبولها. لكن عرفات رقض هذه المقترحات، واحتفى به شعبه كبطل. وفي عام ٢٠٠٦، أغفلت إدارة جورج بوش الابن مؤشرات واضحة تشير إلى فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية، وأصرت على إجراء الانتخابات فكانت النتيجة فوز الحركة الرديكالية على أحزاب وحركات السلطة الفلسطينية.
خلال إدارة بايدن، اعتمد المسؤولون الأمريكيون على تقارير الاستخبارات لتقييم تفكير القادة الإيرانيين وموقفهم من الاتفاق النووي المقترح. وتبين أن تقييماتهم، في كثير من الأحيان، خاطئة. كما فوجئوا بالنصر الخاطف الذي حققته طالبان بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وبهجوم حماس في 7 أكتوبر على إسرائيل.
لم تكن هذه الصدمات نتيجة تحريفات متعمدة يتم فيها تشكيل المعلومات الاستخباراتية لتناسب أهواء المسؤولين - كما حدث عندما أخبرت وكالة المخابرات المركزية في عام 2003 الرئيس جورج دبليو بوش بما أراد سماعه: أن الزعيم العراقي صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل، وإنما كانت نتيجة ديناميكية أقل خداعًا وغير موجهة لكنها لم تكن أقل غدرا ولا كذبا.
المعضلة في هذه الحالات وغيرها لا تكمن أساسا في سوء تقدير الولايات المتحدة. فالخطأ في التقدير، أو إساءة فهم الديناميكيات الخارجية، أو إساءة فهم الجهات الفاعلة المحلية أمر وارد. فبالنسبة لمعظم صانعي السياسات، يُعدّ هذا جزءا من عملهم. أما الأمر غير المألوف، والأصعب تفسيرا، فهو وتيرة تكرار هذه الإخفاقات؛ وتكاثرها دون أن يؤدي ذلك إلى مساءلة شخصية أو مؤسسية، ولا حتى توبيخ خفيف لمرتكبي هذه الأخطاء، ناهيك عن إعادة تفكير حقيقية في آليات الوصول إلى هذه النتائج أو الفهم. كما تكمن المعضلة في مدى ضآلة قدرة الولايات المتحدة على التعلم من أخطائها. وهنا تكون النتيجة هي تكرار الفشل.
الأمر الأكثر إرباكًا من الأخطاء أو تكرارها المستمر هو إصرار المسؤولين الأمريكيين على ترديد الأكاذيب حتى بعد اكتشافهم للحقيقة، وبعد معرفتهم باكتشاف الآخرين لها. وهنا تأتي المرحلة الأخيرة من الفشل الامريكي وهي الكذب.
تولد الكذبة من الفشل، وتزدهر مع تكراره. يفعل صانعو السياسات الأمريكيون شيئا يعتقدون أنه سينجح، ويكررونه حتى لو لم ينجح، ويزعمون أنه سينجح في حين يعلم الجميع أنه فاشل، ويعدون بهذا النجاح في الوقت الذي يفقد فيه الجميع صبرهم وإيمانهم بالدور الأمريكي.
ومع الانفصال عن الواقع، تنحرف التصريحات إلى كلام متفائل. ليصبح الأمر أكثر من مجرد تضليل إعلامي، ويتحول إلى موقف متعمد، يكاد يكون استراتيجيًا، لنشر حالة من البهجة اللامحدودة، على عكس المنطق السليم والتجربة اليومية. فهذه هي الطريقة العفوية التي تقدم بها الولايات المتحدة باستمرار تصريحات متفائلة تتحدى كل الأدلة وتتناقض بشدة مع سجل مؤسف من الفشل والكذب.
ومع هذا التاريخ الطويل من الكذب على النفس وعلى الآخرين تعلم الحلفاء والأعداء في الشرق الأوسط على السواء كيف يتجاهلون مواقف ورأي الولايات المتحدة، رغم أن هيمنتها الاقتصادية والعسكرية في العالم والمنطقة لا تبارى. فالولايات المتحدة، بكل قوتها، كانت تواجه باستمرار تحديا من إسرائيل، بل وحتى من الفلسطينيين في كثيرٍ من الأحيان عندما تقدم أي مقترحات لتحقيق السلام، ثم تكتفي واشنطن بمشاهدة إحراجها.