تعرض سينما زاوية ضمن برنامج "أيام القاهرة السينمائية" فيلم إلى أرض مجهولة / To a Land Unknown، وهو أول فيلم روائي طويل للمخرج الفلسطيني الدنماركي مهدي فليفل، خريج المدرسة الوطنية للسينما والتلفزيون بالمملكة المتحدة، والمعروف بفيلمه الوثائقي "عالم ليس لنا" إنتاج 2012.
عُرض الفيلم لأول مرة في برنامج "أسبوع المخرجين" بمهرجان كان السينمائي لعام 2024، تلاه عرضه الأول في أمريكا الشمالية ضمن فعاليات مهرجان تورنتو السينمائي الدولي في العام نفسه.
يبدأ الفيلم باقتباس من المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد: "بطريقة ما، إنه نوع من مصير الفلسطينيين ألا ينتهي بهم الأمر حيث بدأوا، بل في مكان غير متوقع وبعيد"، في إشارة تمهّد لنهاية الفيلم الصادمة، إذ لا يزرع المخرج أي تفصيلة دون أن يكون لها دلالة لاحقة، حتى الاقتباس يكتسب معناه مع تطور الأحداث.
تدور أحداث الفيلم في أثينا، حيث يعيش شاتيلا ورضا (محمود بكري وآرام صباح)، وهما أبناء عم هربا من مخيم نازحين فلسطيني في لبنان، ويحلمان بالوصول إلى ألمانيا حيث ينتظرهما مقهى صغير، وعمل مستقر، ولمّ شمل عائلي. لكن هذه الأحلام تتحطم على صخور الواقع، ويتحول السعي وراءها إلى رحلة قاسية تسحقهما نفسيًا وإنسانيًا.
يقول جوزيه ساراماجو في روايته "العمى": "إن كنا غير قادرين على العيش ككائنات بشرية، فدعونا على الأقل نحاول ألا نعيش كالحيوانات"، ولكن هل حاول بطلا الفيلم فعل ذلك؟ هذا هو جوهر "إلى أرض مجهولة"، الذي يتقاطع دراميًا مع رواية ساراماجو، إذ تدفع الحاجة إلى النجاة الشخصيات إلى التخلي عن إنسانيتها، فتبقى الغريزة وحدها.
يعرض الفيلم واقعًا قاسيًا دون مبالغة، كاشفًا عن الحياة المعقدة التي يعيشها المهاجرون العرب في أوروبا، وسط محاولات يائسة للهروب من أوطان مليئة بالمآسي. وفي طريقهم نحو "الحياة الأفضل"، يرتكب الأبطال أفعالًا غير أخلاقية وغير قانونية: من السرقة والكذب إلى النصب وبيع الجسد، سعيًا وراء المال.
نراهم أولًا يسرقون حقيبة امرأة مسنّة تحتوي فقط على بعض الأدوية و5 يورو، كاشفين عن تلاشي أي شعور بالرحمة، ثم يتوالى سقوطهما الأخلاقي مع كل موقف. ويحرص المخرج على إظهار الفروق النفسية بين شاتيلا ورضا تدريجيًا، حتى تتبلور نهايتهما بشكل منطقي بعيدًا عن المبالغة أو القفزات غير المبررة.
في خضم هذه الرحلة، يصبح الجميع ضحايا ومجرمين في آن، ضمن دائرة مغلقة من الاستغلال، إذ يستغل القوي الضعيف والأقوى من هو أضعف، حتى وإن كان من نفس البلد أو العائلة. وهنا تتجدد أصداء "العمى"، فشخصيات الفيلم ليست سجينة مكان واحد، لكنهم جميعًا أسرى الغربة والماضي، ويتقاتلون داخل هذا "السجن" من أجل البقاء.
استعان المخرج بكل أدواته لتجسيد هذا السجن: إضاءة خافتة، مساحات ضيقة، لقطات قريبة تبعث على الاختناق، غرف عشوائية، نوافذ محاطة بالحديد، وكلها عناصر تصنع عالمًا بصريًا خانقًا وغير إنساني، يُعبّر عن المأساة المعيشية للشخصيات.
وتكامل هذا التكوين البصري مع بعد سمعي مؤلم، عبر قصيدة لمحمود درويش يرددها أحد الشخصيات (أبو الحب، مسؤول المخدرات) في لحظة شديدة القسوة أثناء احتجاز مجموعة من السوريين، حيث يقول:
"سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ...
لا إخوةٌ لك يا أخي، لا أصدقاء
لا الماء عندكَ لا الدواء ولا السماء...
حاصِرْ حصَارَكَ... لا مفرُّ
سقطتْ ذراعك فالتقطها واضرب عدوك... لا مفرُّ
وسقطتُ قربك، فالتقطني واضرب عدوك بي... فأنت الآن حُرٌّ
ذهب الذين تحبهم... ذهبوا
فإما أن تكون، أو لا تكون..."
يختبر سيناريو الفيلم – الذي كتبه فيصل بوليفة، مهدي فليفل، وجيسون ماكولجان – قدرة المُشاهد على البقاء متعاطفًا مع شاتيلا ورضا، رغم تصاعد جرائمهم ضمن محاولاتهم لتأمين حياة يرونها "عادية"، لكنها بعيدة المنال بالنسبة لهم. ويثير تساؤلًا قاسيًا: هل تُنتصر إنسانية الفرد، أم رغبته في النجاة عندما يُسلب منه كل ما هو إنساني؟
نال الفيلم إشادات واسعة منذ عروضه الأولى بالمهرجانات الدولية، بفضل تماسك السرد، وعمق المعالجة، وواقعية رسم الشخصيات، حيث وصفت الناقدة كاثرين براي في فرايتي العمل بأنه: "دراما غاضبة، متقنة، وواعدة"، فيما منح الناقد بيتر برادشو الفيلم 4 من 5 نجوم في الجارديان، مشيدًا بأداء الممثلين. وكتبت صوفي كوفمان في إندي واير: "ما يجعل الفيلم مؤثرًا هو شخصياته المكتوبة والمجسدة ببراعة".
وبالفعل، يتمثل أحد أهم عناصر القوة في طاقم التمثيل، خاصة الثنائي شاتيلا ورضا، حيث ينجح الممثلان في نقل التوترات الداخلية بلغة الجسد وتبادل النظرات، دون الوقوع في فخ استدرار العواطف، الذي تقع فيه أحيانًا بعض الأفلام ذات الطابع السياسي.