قد آثرت أن أقدم إلى قارئة وقارئ «الشروق» الكريم هذا الكتاب المهم، الذى لقى ترحيبا واسعا من الجماعة الأكاديمية فى الولايات المتحدة الأمريكية، ومراكز البحث فى عدد من الدول الأوروبية. هذا الكتاب صادر باللغة الإنجليزية أصلا عن دار نشر «Rutledge» بعنوان (Genocide in Libya: Shar، A hidden colonial story) وهو من تأليف الدكتور على عبداللطيف حميدة، رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة «نيو إنجلاند» بالولايات المتحدة، وهو المتخصص فى النظرية السياسية والسياسة المقارنة وعلم الاجتماع التاريخى. وقد قام بتقريظه عدد من الأعلام مثل المفكر المعروف نعوم تشومسكى. ثم صدر الكتاب باللغة العربية أخيرا لعله يلحق بمعرض القاهرة الدولى للكتاب، فى دورته للعام الحالى. وقد قام بترجمته من الإنجليزية للعربية الدكتور محمد زاهى بشير المغيربى ــ الأستاذ الكبير لعلم السياسة فى جامعة بنغازى ــ وذلك تحت عنوان «الإبادة الجماعية فى ليبيا / الشرّ، تاريخ استعمارى مخفى)، وصادر عن دار (كلام للبحوث) وعن «مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة».
ولأن الدكتور على عبداللطيف حميدة قد جمع بين انتمائه لليبيا الشقيقة، ودراسته بجامعة القاهرة ــ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ــ فى أوائل السبعينيات من القرن المنصرم، ثم فى الجامعات الأمريكية بعد ذلك، بالإضافة إلى الخبرة العيانية المباشرة لموضوع بحثه فى الكتاب موضع العرض اليوم، فلذلك استحق أن يكون مؤلفا لهذا السّفْر الممتاز حول (تاريخ ليبيا الحديث) عبر قراءات عابرة للثقافات وبحث مقارن لدراسة «الإبادة الجماعية» و«المحرقة». وهو ليس كتابا فى تاريخ ليبيا الحديث فحسب، ولكنه مكرّس لقطعة نادرة من هذا التاريخ حول «الإبادة الجماعية الليبية المنسية»، والتى وقعت خلال الفترة 1929ــ1934 حين خضعت ليبيا للاستعمار الإيطالى منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى (1914) حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وإذْ فَقَد الآلاف من الشعب الليبى حياتهم إما قتلا بشكل مباشر، أو كضحايا لعمليات الترحيل والحياة التى لا تطاق فى المعتقلات الإيطالية الفاشية.
وهو لم يكن أىّ استعمار، ولكنه الاستعمار الذى شهد فى جانب رئيسى منه خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، الحكم الفاشى، بزعامة «الدوتشى موسولينى»، وحيث قاد جيش الاحتلال فى فترة البحث عددا من العسكريين العتاة متزعمى نهج «الإبادة البشرية» Genocide ضد المقاومة الوطنية الليبية طوال الثلاثينيات من القرن الماضى والتى قادها شيخ المجاهدين عمر المختار فى شرق ليبيا وجنوبها، بعد انهزام شعلة المقاومة فى الغرب الليبى.
• • •
ولكن أهمية الكتاب الذى بين أيدينا لا تكمن فى مجرد كونه دراسة علمية موثقة بطريقة جيدة جدا، بنهج «متعدد النظم»، مع استخدام طريقة البحث متعددة الأساليب أيضا، فى مقدمتها طريقة «التاريخ الشفوى» التى أبدع مؤلف الكتاب فى استعمالها أيّما إبداع، وأنفق زهاء خمسة عشر عاما فى تتبع مظانّها فى أماكن حدوثها الأصلية، فى الشرق والجنوب الليبى، حيث تمت عملية «الترحيل القسرى الجماعى للسكان»، بمئات الآلاف، وإيداعهم المعتقلات الجماعية (ستة عشر معسكرا للاعتقال) منها خمسة معتقلات شهدت أعتى أنواع حرب التجويع والتعطيش والقتل المباشر والتعذيب فيما يعرف بنهج الإبادة البشرية.
لا يتوقف الأمر عند كل ذلك، ولكن الكتاب يمثل فى حقيقته بمثابة فتح من فتوح الممارسة البحثية فى حقل دراسات الاستعمار وما بعد الاستعمار PostــColonialism فى جانب مهم من جوانبها هو «الإبادة الجماعية». وهنا أجاد المؤلف المتميز فأكد أن دراسته لعملية الإبادة البشرية التى مارسها الاستعمار الإيطالى تحت حكم «الفاشية» البغيضة، تشكل مجرد جزء من المنظور الشامل لدراسات الإبادة فى المستعمرات، وخاصة فى إفريقيا، كأسلوب خاص من أساليب محاولة إخماد المقاومة الوطنية، كما جرى عليه الحال فى بلدان عديدة مثل إثيوبيا (التى خضعت بدورها للاستعمار الإيطالى أيضا بين الحربين) وناميبيا، حيث الاستعمار الألمانى، وغيرها عديد.
ويشير المؤلف إلى أن اهتمامه لم يكن منصبا على موضوع الإبادة البشرية الجماعية فى ليبيا، كحدث منفرد، ولكن كحقل للدراسة الموسّعة للظاهرة التى تمتد فتطل بظلالها على بلدان من عديد القارات حتى القارة الأوروبية لنفسها.
وهنا يشير الباحث البحّاثة/على عبداللطيف حميدة، إشارة من طرف صريح وليس من طرف خفىّ، كما يقال، إلى الواقعة التى تعرضت لعرض منظّم، ولكنه فريد فى بابه، وكأنه وحيد، لم يسبقه أو يلحقه شىء؛ نقصد هنا ما أُطلِق عليه «الهولوكست» إشارة إلى ما تعرض له يهود ألمانيا وأوروبا الشرقية، على يد النظام النازى بقيادة «أدولف هتلر» (الفوهرر) قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية.
إن تلك «الهولوكست»، وفق ما يذكر المؤلف، ليست فريدة فى بابها، ولكنها جزء من الظاهرة الأوسع التى تعرضت لها شعوب عديدة من إفريقيا وآسيا أيضا، فى مقاومتها للاستعمار الفاشى والنازى وغير ذلك. ويقول المؤلف بصريح العبارة إنه ليس من المبرر علميا إغفال دراسة الظاهرة خارج الوطن العربى عموما، وليبيا خصوصا، بما فى ذلك «الهولوكست»؛ فهى جميعا ينتظمها سلك واحد، تمّت تجربته بطرق متشابهة، لتؤدى وظيفة مشتركة فى دراسات المقاومة الوطنية للاستعمار، بما فيها، على سبيل الخصوص، المقاومة الجزائرية البطلة ضد الاستعمار الفرنسى الذى مارس بدوره نهج الإبادة، فى إطار أوسع للبحث، كما تجلّى فى كتابات عديدة، مثل أعمال «فرانز فانون».
ولا يتوقف «الفتح» البحثى للكتاب محل العرض اليوم، ومؤلفه الهُمام، عند ذلك، ولكنّ فتوحا عديدة تترى، من بينها الاستخدام العلمى المنظم، كما أشرنا، لطريقة «التاريخ الشفوى»، حيث جهد مؤلف الكتاب لمعاينة معسكرات الاعتقال، وتم ترتيب مقابلات له مع الناجين من عملية الإبادة المنظمة، وسجل شهاداتهم، كما احتفظ بمأثوراتهم الشعبية، وقصائدهم الشعرية ذات النفّس العبقرى الملهم فى استيحاء «الحزن» كينبوع للمعرفة التنويرية الكاشفة.
وقد حفل الكتاب بملاحق لصور حيّة، وشهادات ناطقة، ساعده فى جمعها أفراد ذوو همّة عالية، إضافة إلى المخزون الثرىّ لـ«مركز دراسة جهاد الليبيين» فى طرابلس، ومن الأرشيف الإيطالى، ومصادر أخرى لم يتردد فى خوض عباب البحار والمحيطات ليجمعها فى سبيكة نادرة للبحث العلمى الأصيل.
• • •
خلاصة الأمر أن هذا الكتاب فى حقيقته صرخة ودعوة ورسالة. فهو صرخة فى وجه سياسة الإنكار Denial التى مارستها الجماعة العلمية الغربية الأوروبية والأمريكية عموما، لظاهرة وعملية الإبادة البشرية خارج أوروبا، وخاصة ما عدا «الهولوكست الشهير»، فى القارة الإفريقية عموما، وفى ليبيا خصوصا، حيث تعامل معها الباحثون ومراكز البحث الغربية، وكأنها لم تحدث، فى صمت يليق بالمركزية الأوروبية كما عهدناها Euroــcentrism وتجلياتها البحثية المريبة، وكأنه ــ مثلا ــ لم تقع إلا «هولوكست» واحدة فحسب، قامت بها حكومة ألمانيا النازية ضد رعايا أوروبيين بالذات. وهذا ما يتناقض بصورة مؤكدة مع وقائع التاريخ الحى، ونهج البحث العلمى الأصيل. فيكون هذا الكتاب إذن صيحة استنكار لنهج «الإنكار» بلغة بحثية وأكاديمية رصينة حقا.
ثم إن هذا الكتاب بمثابة دعوة للباحثين العرب، فى شتىّ أقطارهم، للبحث عن الحقيقة فى مختلف أماكنها ومن مصادرها الأصلية، وتجشّم المخاطر فى سبيل ذلك لسنوات طويلة، بغرض إجلاء الحقيقة، مهما كانت المتاعب أو المخاطر التى قد يتعرضون لها. وهو أيضا دعوة فرعية للالتفات إلى طريقة «التاريخ الشفوى» الذى ينقّب فى الشهادات الحية، والأغانى، والقصائد، والألعاب الشعبية، وكل ما عدا ذلك من منابع البحث العلمى الأصيل بطرقه المستحدثة والمبتكرة فى شتى الميادين.
ثم إن هذا الكتاب ربما يعتبر بمثابة رسالة، يحمل همّها وعبئها، ليس الباحث الفرد مؤلف هذا الكتاب فحسب، ولكن كل من قُدّر له، ويقّدر، أن يخوض عباب البحث العلمى فى حقل التاريخ، والتاريخ العربى، والليبى، وفى مجال دراسة الظاهرة الاستعمارية بتجلياتها النادرة، مثل «الإبادة البشرية» ونقيضها من المقاومة الوطنية الباسلة. ويُعدّ ذلك سعيا كما يقول المؤلف إلى (تغيير «البارادايم») Paradigm أو الإطار الفكرى والمنظور المحيط بضرورات تفكيك مُخرجات المركزية الأوروبية فى دراسات النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والإبادة الجماعية.
لذلك كله، ولكون الكتاب صرخة ودعوة ورسالة، فقد عملنا على تقديم هذا السّفر النفيس، من حيث مادته وطرائق بحثه، للقارئة والقارئ العربى الكريم أينما كان، فلعله يفتح طريقا ويشق طريقة، نحو الفهم العلمى المتكامل لتاريخنا العربى الحديث، وبجوانبه «المخفية» حقا والتى تجاهلها المُغرضون.
فى ضوء كل ذلك، يكون واجبا مفروضا على أبناء الأمة العربية الأصلاء أن يبادروا إلى درس تلكم الجوانب (المخفيّة) فى غير تردد، برغم العّنت المنتظر، وفى وجه «الإنكار» شبه المنظّم، مقصودا كان أو غير مقصود. وما ذلك ببعيد..!