«اليهودية السياسية» و«الصهيونية الإسرائيلية» - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
السبت 4 أكتوبر 2025 11:10 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

«اليهودية السياسية» و«الصهيونية الإسرائيلية»

نشر فى : السبت 4 أكتوبر 2025 - 7:40 م | آخر تحديث : السبت 4 أكتوبر 2025 - 7:40 م

 

جاء فى بعض الأخبار أنه تم – مؤخرًا – عقد «مؤتمر يهودى عالمى» فى العاصمة النمسـاوية فيينا، مناهض للصهيونية، ضم زهاء خمسمائة مشارك من مختلف دول العالم، وعبّر عن إدانته لإسرائيل كنظام للفصل العنصرى. هذا يذهب بنا إلى ضرورة إلقاء نظرة فاحصة مقارنة على جوهر «الكينونة الإسرائيلية» – إن صحّ التعبير – باطنًا وظاهرًا، وما يدل عليه ذلك من الناحية التاريخية والفلسفية. «إسرائيل» كيان سياسى حديث جدًا، لا يتعدى عمره سبعة وسبعين عامًا، باعتبار قيامه وفق اعتراف الأمم المتحدة به فى عام 1948، برغم ما شاب هذا الاعتراف من عيوب قانونية بارزة، لعل أهمها أن «الملف» الذى تقدمت به إسرائيل لطلب عضوية المنظمة الدولية «الأمم المتحدة» تضمن تأكيدًا على قبول قرار (تقسيم فلسطين) الصادر من نفس المنظمة الدولية فى 29 أكتوبر 1947.

هذا الكيان السياسى بالغ القصر من حيث المدى الزمنى، والذى قام بواسطة الاعتداء الصارخ على كينونة الوطن الفلسطينى، اعتاد على اتباع سبيل الحرب والعنف الموجه ضد البلدان العربية المحيطة بفلسطين من كل جانب (1948، 1956، 1967، 1978 فى مواجهة لبنان حتى الآن 2025…).

• • •

كان وما يزال تركيز الكيان الإسرائيلى عدوانيا - هجوميا على الوطن الفلسطينى وما جاوره بالدرجة الأولى، وخاصة بعد (طوفان الأقصى) فى السابع من أكتوبر 2023؛ وأخذ هذا التركيز منحى محددًا قائمًا على ما يلى:

أ- فى مواجهة (غزة): اتباع نهج الإبادة الجماعية (Genocide)، والعمل على التهجير القسرى لأهل البلاد، وممارسة القتل الجماعى اليومى ضد السكان، ولو بذريعة العمل الإنسانى مثل توزيع الغذاء (…!) الذى لا يتم أصلًا.

ب- فى مواجهة الضفة الغربية: الاستيطان الصهيونى المبرمج ضد الأرض والسكان من الوطن الفلسطينى، وصولًا إلى ادعاء ملكية مناطق واسعة من النقب وتقطيع أوصال الوطن، وخاصة بعد كشف الغطاء عن المشروع الاستيطانى AI الذى يشطر الضفة إلى شطرين غير قابلين للالتئام، برغم بناء «جدار الفصل العنصرى» بين الضفة وأرض 1948.

والهدف (الاستراتيجى) الذى يعلنه غلاة اليمين الصهيونى المتطرف، ضمّ الضفة الغربية إلى كيان الاحتلال الإسرائيلى، ولو بدون مشروعية قانونية دولية، كما جرى عليه الحال مع مرتفعات الجولان السورية؛ أما الهدف (الأبعد استراتيجيًا) فهو ما أشار إليه أحدهم من أنه مكلف برسالة تاريخية – روحية ممثلة فى رؤية (إسرائيل الكبرى).

ج- العمل على تهويد القدس الشرقية بالكامل تقريبًا منذ عدوان 1967 مع تهجير ما أمكن تهجيره من أهل المدينة.

فيما يبدو، إن كل ما سبق يؤدى إلى محاولة مصمَّمة قوامها، من جهة أولى، ما يمكن أن نطلق عليه «الاستعمار الإحلالى» أى إحلال المستعمرين الصهاينة محل أهل البلاد من الوطن الفلسطينى، وتهجير هؤلاء قسريًا إلى خارج الوطن. ومن جهة ثانية، ممارسة القتل الجماعى والإبادة كنهج متبع فى مواجهة أية مقاومة تبديها نويات حركة التحرر الوطنى الفلسطينى فى الضفة الغربية وغزة وغيرهما.

هذا النمط الخاص مما يمكن تسميته «بالاستعمار الإحلالى»، وبتعبير أدق: «الإحلال الاستعمارى» القائم على أداة القتل الجماعى ونهج الإبادة، له خصائصه المميزة التى تفرقه بينه وبين أنماط الاستعمار الأخرى فى التاريخ الحديث.

 (إسرائيل الكبرى) المتوهَّمة، على هذا النحو، تحل محل فلسطين، الوطن والأهل، والقتل والتهجير هما الأداة المفترضة– الموهومة–لتحقيق (وهم إسرائيل الكبرى) تلك التى يستحيل تحقيقها أصلًا. إذ كيف يمكن لسبعة ملايين (يهودى) تقريبًا فى فلسطين المحتلة أن يقوموا بمحو سبعة ملايين آخرين من الفلسطينيين: منهم أربعة ملايين تقريبا فى «الضفة» و«غزة»، ومليونان تقريبًا من (فلسطينيى 1948) ودع عنك نحو مليون ونصف المليون من فلسطينيى المهجر أو «الدياسبورا».

ولكن هكذا يفكر الآخذون بزمام الحكم داخل الكيان الإسرائيلى، وفق ما ذكره بعض ما نُسب إلى إحدى القيادات الصهيونية المتطرفة (جولدا مائير): (شعب بلا وطن) يذهب إلى (وطن بلا شعب)..! وليكن القتل الجماعى والإبادة والتهجير القسرى سبلا إلى تحقيق الهدم الموعود!!

هذا كله من حيث المشروع (الصهيونى الإسرائيلى)، أو المشروع الصهيونى بما هو كذلك، وكما يجرى العمل على تجسيده إسرائيليًا وخاصة من قبل «اليمين الصهيونى المتطرف».

• • •

أما من المنظور التاريخى المقارن، فيمكن القول إن أقرب النماذج التاريخية للنموذج (الصهيونى الإسرائيلى) أو (الإسرائيلى الصهيونى)، وخاصة وفق اليمين الصهيونى المتطرف، كما أشرنا غير مرة؛ إن أقرب النماذج التاريخية لذلك النموذج (المتوهم) هو نموذج (الهنود الحمر) فى أمريكا الشمالية، إذ قام المستوطنون البيض القادمون من القارة الأوروبية بالاستيلاء التدريجى على أراضى ما أسموهم (السكان الأصليين) بصورة تدريجية وفق طريقة (الحدود المتدحرجة Frontiers) مع القيام بالاستئصال العضوى لأولئك السكان، عن طريق قتلهم وسلخ جلود رءوسهم، ومحوهم «إباديًا» من خارطة الوجود البشرى. ولعل هذا ما يخامر أذهان الصهاينة الإسرائيليين، خاصة المتطرفين منهم، وفق رؤية (إسرائيل الكبرى) التى يحاولون الترويج لها، بل ذلك ما يحدث كل صباح ومساء هذه الأيام فى غزة، حين يرتقى العشرات بل والمئات دون أن يطرف جفن لغلاة العنصريين «الشوفينيين» من حكام تل أبيب.

ورغم أن احتذاء نحو نموذج «الهنود الحمر» يعتبر من قبيل المستحيل فى الظروف الراهنة، فإنه يبقى مرشدًا «موهومًا» لغلاة الإسرائيليين من (اليمين الصهيونى المتطرف).

نموذج «الهنود الحمر» – الوهمى مع ذلك – مختلف عما جرى للأفارقة الذين جُلبوا عنوة من بلادهم إلى سواحل ووسط القارة الإفريقية، وتعريض الملايين منهم لخطر الغرق والموت على السفن المتهالكة عبر المحيط طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر بالذات، ومن ثم تحويلهم – أولئك السود أو الزنوج كما يقال – إلى طبقة من العبيد فى مزارع البيض للقمح وقصب السكر. وفى سبيل تأكيد الرؤية العنصرية تجاه السود والتمييز العرقى، قامت «الحرب الأهلية» فى القرن التاسع عشر، وسالت أنهار الدماء على مذابح العنصرية حتى الستينيات من القرن العشرين، إثر حركة تحرر السود بقيادة «مارتن لوثر كنج» وغيره.

والحق أنه، مع ذلك، لم تجر أعمال إبادة جماعية للسود على غرار ما جرى للهنود الحمر، وإن ظلت الممارسات التمييزية ذات الطابع الدموى قائمة على قدم وساق بدرجات متنوعة، ربما حتى الآن.!

• • •

كذلك نقول إن نظام «الأبارتهايد» أو الفصل والتمييز العنصرى فى منطقة جنوب إفريقيا ليس شبيهًا بما جرى ويجرى فى فلسطين المحتلة؛ فليس ما يجرى من قبيل التمييز العنصرى فحسب، ولكن القيام بما لم يتم القيام به من طرف غلاة البيض المتطرفين فى جنوب إفريقيا، وخاصة من حيث القتل الجماعى ومنهج الإبادة ومزج العنف الدموى بالتهجير القسرى على كل حال.

وإن لم يكن النموذج الصهيونى – الإسرائيلى مشابها للأبارتهايد، فهو بعيد جدًا كذلك عن «الاستعمار الاستيطانى» الذى قام به المستعمرون من فرنسا وهولندا والبرتغال فى مناطق إفريقية وآسيوية عديدة، وفى الجزائر العربية الحبيبة، حتى قام شعبها بحرب تحرير ضروس ضد المستوطنين الغزاة وذهب منه نحو مليونين من الشهداء فى سياق المقاومة الجزائرية الباسلة طوال (1954–1962).

والخلاصة أن ما يعمل عليه اليمين الصهيونى المتطرف، من دعاة «إسرائيل الكبرى» والقريبون منه بدرجات مختلفة، ليس نوعًا من تحويل الفلسطينيين إلى مجرد (طبقة من العبيد) بأشكال مختلفة. إنما هو سيناريو «الهنود الحمر»، القائم ليس على مجرد الإقصاء، ولكن على الاستئصال العضوى الدموى.

فما الذى يمكن عمله حيال ذلك؟ إنه نهج «التحرر الوطنى» الجذرى والممتد، حتى يتم إحقاق الحق دون مواربة، سعيًا إلى نيل الاستقلال الحقيقى فى ربوع دولة فلسطينية كاملة السيادة، وما هذا ببعيد على كل حال.

أستاذ باحث فى اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية

 

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات