التجويع.. جريمة حرب - يحيى عبدالله - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 3:56 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التجويع.. جريمة حرب

نشر فى : الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 - 6:05 م | آخر تحديث : الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 - 6:05 م

فى عام 2007م، بعد صعود حركة «حماس» إلى الحكم، فى انتخابات ديمقراطية، وتشكيل حكومة برئاسة، إسماعيل هنية ــ اغتالته إسرائيل فى طهران فى 31 يوليو 2024م ــ فرضت إسرائيل حصارا، وعقوبات اقتصادية وقيودا، على قطاع غزة، كان الهدف منها تقويض حكم «حماس».
وفى عام 2008م، وضع منسق حكومة الاحتلال الإسرائيلى، بالمناطق الفلسطينية المحتلة، وثيقة عنوانها «خطوط حمراء»، حددت الحد الأدنى من السعرات الحرارية المطلوبة كى لا يصل سكان القطاع إلى حالة من سوء التغذية، على ضوء القيود التى فرضتها إسرائيل على تحركات الأفراد ودخول البضائع، بما فيها كميات الطعام والمواد الخام.
فكرة الحصار والتجويع حاضرة فى التفكير الإسرائيلى، حتى قبل «طوفان الأقصى»، وربما كانت أحد أسباب الانفجار الفلسطينى؛ وازداد حضورها، فى وعى المسئولين الإسرائيليين، بعد السابع من أكتوبر 2023م، وهو ما انعكس فى تصريحات، واضحة، تدعو إلى تجويع السكان المدنيين فى غزة كوسيلة من وسائل القتال، فضلاً عن نزع الصفة الإنسانية عنهم لتبرير الجريمة.
من هذه التصريحات، تصريح وزير الدفاع، يوآف جالانت، الذى أعلن، صراحة، أن منع الطعام والماء جزءٌ من عملية القتال: «نحن نفرض حصارًا شاملا على مدينة غزة. لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لا وقود. كل (المعابر) مغلقة. نحن نحارب (حيوانات بشرية) ونتعامل معهم من هذا المنطلق»، ومنها تصريح وزير الأمن القومى الإسرائيلى، إيتمار بن جفير، الذى ربط فيه بين جهود إعادة الأسرى الإسرائيليين ومنع دخول مساعدات إنسانية إلى القطاع: «طالما لم تطلق حماس سراح المخطوفين الذين بحوزتها، فإن الشىء الوحيد الذى يجب إدخاله إلى غزة هو مئات الأطنان من متفجرات سلاح الجو، وليس جرامًا واحدًا من المساعدات الإنسانية»، ومنها تصريح وزير الخارجية، يسرائيل كاتس، الذى قال فيه: «لقد أمددنا غزة لسنوات بالكهرباء، والماء والوقود. وبدلاً من أن يشكروننا أرسلوا آلافًا من (الحيوانات البشرية) ليذبحوا، وليقتلوا، وليغتصبوا، وليخطفوا الرضع، والنساء والمسنين ــ لذا قررنا وقف ضخ الماء، والكهرباء والوقود، والآن دُمرت محطة القوى المحلية الخاصة بهم ولا وجود للكهرباء فى غزة. سنواصل تشديد الحصار إلى أن يزول التهديد الذى تمثله حماس على إسرائيل والعالم. ما كان لن يكون».
بل إن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، تجاوز، فى رسالته إلى المقاتلين الإسرائيليين فى الثالث من نوفمبر 2023م، مسألة التجويع إلى ما هو أفدح؛ حيث استلهم نصًا توراتيًّا، يدعو إلى إبادة سكان غزة؛ حيث قال بالحرف الواحد: «الصراع الحالى ضد قتلة حماس هو فصل إضافى فى قصة الصمود القومى على مر الأجيال. اذكر ما فعله بك عماليق». يدرك كل دارس للتوراة، ناهيك عن كل إسرائيلى، أن الأمر فى النص التوراتى ــ اذكر ــ يدعو إلى محو وإبادة «عماليق» ــ الشعب الذى قاوم الغزو العبرانى، فى سالف الأيام، وهو معادل لـ «حماس»، التى تقاوم الاحتلال فى عصرنا ــ من على وجه الأرض، بمن فى ذلك النساء والأطفال.
• • •
ما تزال أطياف من المجتمع الإسرائيلى تنادى باستخدام سلاح التجويع ضد «حماس» بهدف تركيعها، بعد مرور نحو عام على الحرب، وصمود الفلسطينيين فى أرضهم. إذ أصدر «منتدى القادة والمحاربون فى الخدمة الاحتياطية»، وثيقة، فى السابع والعشرين من شهر أغسطس لهذا العام، عنوانها: «خطة اللواءات»، بمبادرة من اللواء احتياط، جيورا آيلاند، الرئيس السابق لشعبة العمليات بالجيش الإسرائيلى، تعرض خطة لما أسموه تركيع حركة «حماس»، تستند إلى افتراض بأن ما يقوم به الجيش الآن من قتل يومى فى القطاع، ليس فعَّالاً بما يكفى لتركيع الحركة، ولتوليد ضغط مؤثر من أجل إطلاق سراح الأسرى. طبقا للخطة، تتحول كل المنطقة التى تقع شمال محور نتساريم، أى مدينة غزة بكل أحيائها، إلى منطقة عسكرية مغلقة، ما يعنى أن كل الفلسطينيين الموجودين بها ــ نحو 300 ألف فلسطينى، بحسب تقديرات جيش الاحتلال الإسرائيلى ــ سيتم طردهم، بشكل فورى، فى غضون أسبوع واحد، عبر ما يُسمَّى بـ (الممرات العسكرية الآمنة)، يعقب ذلك فرض حصار عسكرى شامل على المنطقة، ووضع من تبقى من السكان الفلسطينيين أمام خيار واحد: إما الاستسلام أو الموت جوعًا.
تشير الوثيقة إلى إمكانية استنساخ الخطة، لاحقًا، فى رفح وفى أماكن أخرى من القطاع. وقد اعترف، جيورا آيلاند، صاحب الخطة، بأن إسرائيل استخدمت سلاح التجويع، فى السابق، من أجل إتمام صفقة الأسرى فى نوفمبر من العام الماضى، إذ أدخلت شاحنتين فقط إلى القطاع كل يوم، فيما كان أحد مطالب «حماس» فى المفاوضات زيادة عدد الشاحنات إلى 200 كل يوم.
الأمر، نفسه، أشار إليه المحامى، يهودا شيفر، المساعد السابق للمدعى العام الإسرائيلى، الذى قال إن «الصفقة السابقة لإطلاق سراح (المخطوفين) تمت فى الوقت الذى فرض فيه الجيش حصارًا اقتصاديًّا على «حماس»، اشتمل على وقف إمدادات الوقود وقطع الكهرباء، بخاصة؛ ودعا الحكومة إلى بلورة استراتيجية شاملة لتركيع «حماس» على الصعيد الاقتصادى، أيضا، تشمل سيطرة إسرائيل على كل النشاط المالى فى القطاع، ومنع أى نشاط لا تصادق عليه إسرائيل».
فى السياق، نفسه، دعا المراسل العسكرى بالقناة الثالثة عشرة الإسرائيلية، ألموج بوكر، إلى «وقف المعونات الإنسانية لغزة، ونقل رسالة واضحة لـ «حماس» وللعالم مفادها، إذا ألحقت حماس أذىً بـ (المخطوفين)، فلن يكون هناك طعام فى غزة». نحن أمام طيف متنوع من الآراء، يشمل سياسيين، وعسكريين، وقانونيين، وإعلاميين، وغيرهم، بالتأكيد، يدعو إلى قتل أهل غزة من خلال استخدام سلاح التجويع.
• • •
المعنى، أن المسئولين الإسرائيليين، خاصة، واعون ومدركون لمسألة الاستخدام المتعمد للتجويع كوسيلة من وسائل القتال، وهو ما يتعارض مع معاهدة روما، التى تمثل دستور المحكمة الجنائية الدولية. تنص المعاهدة على أن تجويع المدنيين كوسيلة من وسائل القتال جريمة حرب.
أركان الجريمة، طبقا للمعاهدة، أربعة هى: الفعل، والقصد، والسياق، والوعى بالسياق. من حيث الفعل، فقد منعت إسرائيل، لشهور عديدة، بعد اندلاع الحرب، إدخال المساعدات الإنسانية، بما فى ذلك الطعام والدواء، للقطاع، ولشمال القطاع، بخاصة، وقصفت، خلال عدوانها على القطاع، معظم المخابز ومطاحن الدقيق، وهاجمت قوارب الصيد، ودمرت مصانع ومخازن الطعام، والشاحنات التى تنقل الطعام، ودمرت ما بين 80%ـ 97% من البنية الزراعية بالقطاع. ليس هذا وحسب، وإنما تعمدت قتل أفراد من عمال الإغاثة الدوليين، حيث قتلت، عمدًا، فى شهر أبريل 2024م، سبعة من عمال منظمة «المطبخ المركزى العالمى»، كانوا فى طريقهم لتوزيع مساعدات إنسانية بالقطاع، وقد جمدت المنظمة عملها فى القطاع وتبعتها منظمات إغاثة أخرى خوفا على أرواح منتسبيها.
من حيث القصد والتعمد، فإن تصريحات كبار المسئولين الإسرائيليين تفضح النوايا الشريرة المبيتة. من حيث السياق تنص المعاهدة على وجوب أن تكون الجريمة ضمن نزاع دولى مسلح، وهو ما ينطبق على الحرب فى غزة؛ أما من حيث الوعى بالسياق، فإن تصريحات القادة الميدانيين الإسرائيليين تؤكد وعيهم بضرورة السياق، ومنها تصريح العقيد، يوجيف بر شيشت، نائب رئيس الإدارة المدنية، فى مقابلة أجراها معه التليفزيون الإسرائيلى من داخل قطاع غزة: «المساس بشعبنا غير مُجْد. هذه هى الرسالة. لم يبقَ شىء. من سيعود إلى هنا إذا عاد إلى هنا بعد ذلك، فسيرى أرضا محروقة. لا بيوت. لا زراعة. لا مستقبل لهم».
• • •
ثمة شهادات دولية تؤكد استخدام إسرائيل التجويع كسلاح فى حربها ضد الفلسطينيين فى غزة، فقد أصدرت 15 منظمة إنسانية دولية، تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة، فى نهاية شهر مارس 2024م، تقريرًا ينص على أن قطاع غزة على شفا مجاعة، وأنه فى وضع يمثل الدرجة الخامسة والأخطر فى مقياس المجاعة، حيث يعانى نصف سكانه من انعدام كارثى للأمن الغذائى، بحسب التقرير؛ كما أصدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية، تقريرًا نصَّ على أن 2,2 مليون إنسان (100% تقريبًا) من سكان القطاع يعانون من انعدام الأمن الغذائى من الدرجة 3 فما فوق، وأكثر من 1,7 مليون إنسان من الدرجة 4 فما فوق، ونصف مليون تقريبًا يعانون من انعدام الأمن الغذائى من الدرجة 5، التى هى أعلى درجة فى سلم الجوع.
الأكثر من ذلك، أن سامنتا باور، رئيسة وكالة التنمية الدولية الأمريكية، أشارت، فى إفادتها، أمام لجنة الخارجية بالكونجرس الأمريكى فى بداية شهر أبريل من هذا العام، أن الجوع فى شمال القطاع قد تخطى الحدود، وأن السكان هناك يعانون من جوع فعلى، وهى المرة الأولى التى يصرح فيها مسئول رسمى أمريكى بأن الجوع بدأ يتفشى فى القطاع. نحن أمام شهادات دولية، دامغة، وشهادات من الداعم، بل الشريك الأمريكى فى الحرب على غزة، نفسه، تفيد بالاستخدام المتعمد، للتجويع، كوسيلة من وسائل القتال، وأمام أطياف متعددة من المجتمع الإسرائيلى متعطشة لإبادة الفلسطينيين، جوعًا، فى غزة. شهادات ينبغى أن تحرك الضمائر الميتة فى العالم، لا سيما العالم الغربى (المتحضر) الداعم لإسرائيل.
أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة

يحيى عبدالله أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة
التعليقات