ذهبت آلة الإجرام الإسرائيلية مدى بعيدًا فى حرب الإبادة التى تشنها على قطاع غزة، وفى إجراءات التوسع فى الضفة الغربية المحتلة، وإقامة مستوطنات تفصل شمالها عن جنوبها، بهدف منع إقامة دولة فلسطينية، مع إطلاق العنان للميليشيات الإرهابية اليهودية بها فى قتل وترويع السكان، وإصدار قرارات حكومية بفرض السيادة عليها، وفى العربدة العسكرية، شبه اليومية، فى سوريا، بهدف إضعاف النظام الجديد بها، وفرض أمر واقع عليه بقوة السلاح، والتهديد بتفكيك، وتفتيت الدولة السورية، وبقضم المزيد من أراضيها، وفى ممارسة العدوان، المتواصل، على لبنان، رغم توقيع اتفاق أنهى الحرب مع «حزب الله»، ضاربة عرض الحائط بكل القوانين الدولية.
يخلق الإصرار على ارتكاب كل هذه الأهوال، بحسب ميخائيل ميلشتاين، رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية فى مركز ديان بجامعة تل أبيب، صورة لدولة متطرفة، منفلتة، غير سوية، لا تبالى بالاعتبارات الدولية، تتطلع إلى تحقيق رؤى ما شيحانية، غيبوية، تتمسك بالفقرة التوراتية من سفر «العدد» (23/9)، التى تتحدث عن بنى إسرائيل بوصفهم شعبًا لا يأبه بجميع الأغيار: «هوذا شعبٌ يسكن وحده لا يأبه بالأغيار».
يرى الإعلام العالمى، أن ما سُمى بـ «خطة الجنرالات» هى «صيغة لليمين الدينى الماشيحانى فى إسرائيل، هدفها ارتكاب تطهير عرقى فى شمال القطاع توطئة للاستيطان اليهودى مجددًا به. بل إن نسبة كبيرة من الجمهور الإسرائيلى، غير اليمينى، (48%)، يرون، بحسب استطلاع للرأى، أجراه معهد «ميتفيم» ــ مسارات ــ أن الوضع الإنسانى فى قطاع غزة لا ينبغى أن يهم إسرائيل»، بمعنى أن نحو نصف الإسرائيليين لا تعنيهم الأزمة الإنسانية، المتفاقمة، فى قطاع غزة.
• • •
لو أن دولة أخرى، غير إسرائيل، ارتكبت كل هذه الجرائم، لتصدى لها المجتمع الدولى، ولأصدر قوانين تلزمها باحترام القانون الدولى، ولجيش الجيوش من أجل محاربتها، وإيقافها عند حدها. لكن، لكونها دولة وظيفية، كما قال العلاَمة المسيرى، رحمه الله، مؤتمنة على المصالح الأمريكية والغربية فى المنطقة، فإن ردود الفعل الرسمية فى العالم الغربى إزاء سلوكها ردود مشينة، تفضح المعايير المزدوجة التى تتبناها فى التعامل مع دول أخرى.
صحيحٌ، أن الدعوات فى العالم إلى مقاطعة إسرائيل، وإلى تقليص العلاقات معها تزداد من يوم إلى يوم، لكنها لا تترجم إلى أفعال، وصحيحٌ أن أصدقاءها الكبار، وعلى رأسهم ألمانيا، وإيطاليا، وهولندا، وبريطانيا، يجدون صعوبة فى الدفاع عما ترتكبه من جرائم، لكنهم مستمرون فى دعمها، وفى تزويدها بالسلاح، وصحيحٌ أن العلاقات والاتفاقيات التى أبرمتها مع دول عربية وإسلامية تبدو وكأنها مهددة بالتقوض، لكن دولة واحدة لم تقطع العلاقات معها، أو اتخاذ، حتى، إجراء دبلوماسى واحد، يظهر استياءها.
لا تكف كبرى وسائل الإعلام فى العالم عن إصدار تقارير مطولة، ومفصلة، يوميًا، عن الجرائم التى يرتكبها جنود الجيش الإسرائيلى، ضد السكان المدنيين، العُزَّل، فى غزة، وهى تقارير تستند إلى شهادات من سكان غزة عبر الهاتف أو «الزووم»، وإلى شهادات عمال الإغاثة من الأوروبيين والأمريكيين الموجودين فى القطاع، جزء منها تقشعر له الأبدان، ومع هذا، فإن تأثيرها على صناع القرار فى العالم، محدود.
الأمر نفسه ينطبق على المظاهرات العارمة، التى تجوب كبرى العواصم الأوروبية، مرددة الشعار: «فلسطين حرة من النهر إلى البحر»، وهى مظاهرات حظرتها بعض الدول مثل فرنسا. صحيحٌ، أن صندوق الثروة السيادية، النرويجى، الحكومى أعلن مؤخرًا سحب استثماراته من 11 شركة إسرائيلية، من بينها شركة للمحركات، تقدم خدمات للجيش الإسرائيلى، من بينها صيانة الطائرات، وصحيحٌ، أن هناك ضغطًا شعبيًا فى أستراليا على «صندوق المستقبل» الذى يدير أكثر من 200 مليار دولار أسترالى، لوقف استثماراته فى الشركات التى تدعم المستوطنات الإسرائيلية وشركات الأسلحة الإسرائيلية، والأمر نفسه ينطبق على دولة نيوزيلندا، لكن دولًا عديدة، فى المقابل، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، سنَّت قوانين هدفها منع مقاطعة إسرائيل، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية، تقف حائلًا دون فرض الدول الأوروبية عقوبات حقيقية على إسرائيل. ومن ثم، فإن الإجراء النرويجى، يبدو حالة استثنائية، ولا يشير إلى تسونامى قادم فى الطريق، طبقًا للبيانات الاقتصادية الإسرائيلية. بحسب، المحلل الاقتصادى، حجاى عاميت، الذى يقول إن أرباح الشركات الإسرائيلية فى البورصة بلغت أعلى مستوياتها على الإطلاق، وإن صناعة التكنولوجيا الفائقة ــ الهاى تك ــ تواصل جذب الاستثمارات بوتيرة متسارعة، حيث استقطبت 7 مليارات دولار منذ بداية 2025م، مقارنة بـ 8: 10 مليارات فى 2023م/2024م.
• • •
ثمة انطباع بأن لدى إسرائيل تفويضًا دوليًا بالاستمرار فى حربها على غزة، حيث يقف الفيتو الأمريكى بالمرصاد لكل قرار فى مجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار، وتشير معطيات حديثة لمعهد بحوث الأمن القومى الإسرائيلى، إلى أن 59 دولة عبرت عن دعمها لإسرائيل وعن حقها فى (الدفاع) عن نفسها، من بينها دول أوروبية مؤثرة، مثل ألمانيا، والنمسا، والمجر، وتشيكيا، التى اتخذت مواقف معارضة لفرض عقوبات على إسرائيل داخل الاتحاد الأوروبى، ومثل دول آسيوية لها وزنها مثل الهند، التى تربطها علاقات استراتيجية بإسرائيل، ومثل دول كبيرة فى أمريكا الجنوبية مثل الأرجنتين، التى لا يخفى رئيسها، خافيير ميلاى، الذى زار إسرائيل مرتين، مرة عقب انتخابه، رئيسا، فى فبراير 2024م، بصحبة حاخام أرجنتينى، توجه فيها من المطار، مباشرة، إلى حائط البراق (حائط المبكى)، ومرة فى شهر يونيو من هذا العام، وهى الزيارة التى أعلن فيها عن نقل سفارة بلاده إلى القدس.
فى المقابل عبرت 39 دولة فقط عن دعمها للفلسطينيين، وأدانت إسرائيل، معظمها دول من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
لا غرو، إذًا، فى أن يقول، دان بيرى، إن الأوروبيين، ومعظم دول العالم العربى يصطفون، علانية، إلى جانب إسرائيل، فى قضية جوهرية تتعلق بنزع سلاح حماس، وباستبعادها من حكم غزة. لم تتخذ دول الاتحاد الأوروبى موقفًا موحدًا إزاء الجرائم الإسرائيلية فى غزة، ولم تفرض عقوبات عليها، رغم مطالبة البعض بذلك، وظلت، أغلبية دوله، حتى هذه اللحظة، تدعم إسرائيل، سياسيًا، وعسكريًا، واستخباريًا، واقتصاديًا. لم تحظر دولة واحدة من كل دول أوروبا، تصدير السلاح إلى إسرائيل، باستثناء الحظر الذى فرضه المستشار الألمانى، فريدريخ ميرتس، مؤخرًا، على تصدير بعض أنواع الأسلحة والذخيرة، التى قد تستخدم فى احتلال مدينة غزة، والحظر، الذى فرضته سلوفينيا، على تصدير، واستيراد، ونقل السلاح إلى إسرائيل ومنها، لكن، يتضح، أن إسرائيل لا تستورد أى عتاد عسكرى من سلوفينيا، أو بحسب، إيتمار آيخنر، المعلق العسكرى بجريدة «يديعوت أحرونوت»: «لا نشترى منهم دبّوسًا، إنه حظر للاستهلاك الإعلامى».
مما يزيد الطين بللًا، أن بعض الدول لم تجد حرجا فى عقد صفقات تجارية مع إسرائيل، وفى عقد صفقات أسلحة، أيضًا، معها، من بينها دولة صربيا، التى عقدت، بحسب، يوفال أزولاى، بموقع «كالكاليست»، صفقة مع شركة «إلبيت»، الإسرائيلية، فى شهر يوليو الماضى، لشراء مسيَّرات إسرائيلية من طراز هرمس 900، وقذائف صاروخية دقيقة ذات مدى بعيد، ووسائل قتال إلكترونية، وأنظمة سيطرة ورقابة لتحسين قدرات القيادة فى ميدان القتال، وجعلها أكثر نجاعة، بقيمة 1,6 مليار دولار.
• • •
المقاطعة الوحيدة، التى تبدو، للوهلة الأولى، فعَّالة ومؤثرة، هى المقاطعة فى المجال الأكاديمى؛ حيث أعلنت أكثر من 30 جامعة أوروبية، حتى الآن، مقاطعة الجامعات الإسرائيلية. شملت المقاطعة الأكاديمية مقاطعة المحاضرين والباحثين الإسرائيليين، ورفض نشر بحوثهم العلمية بالمجلات العلمية، وعدم توجيه دعوات لهم لحضور المؤتمرات العلمية، ورفض حضور مؤتمرات علمية فى إسرائيل، ورفض طلبات المنح البحثية، المقدمة من باحثين إسرائيليين.
وفى يوليو 2025م، أعلنت الرابطة الدولية لعلماء الاجتماع تعليق عضوية رابطة علماء الاجتماع الإسرائيليين، فى أعقاب رفضها إدانة إبادة السكان فى غزة، وتدمير الجامعات بالقطاع، وقتل كبار الأكاديميين الغزاويين، وإحراق المكتبة المركزية فى غزة.
وفى يوليو الماضى، أيضًا، أعلنت إدارة جامعة «آيندهوفن»، التقنية، الهولندية، قطع علاقاتها مع معهد العلوم التطبيقية، الإسرائيلى ــ «التخنيون» ــ وحظرت إقامة مشاريع جديدة مع إسرائيل، وفرضت قيودًا على التعاون مع باحثين إسرائيليين، بسبب الإبادة الجماعية فى غزة، وتجويع سكانها.
لكن، 30 جامعة قطرة فى بحر مئات من الجامعات الأوروبية والأمريكية التى ما تزال تتعاون مع إسرائيل فى المجال الأكاديمى، فضلًا عن العقوبات المالية الباهظة، التى فرضتها إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، على بعض الجامعات الأمريكية، التى تعاطف طلابها وكثير من أساتذتها، مع الحقوق الفلسطينية. نحن إزاء حقائق صادمة، وموجعة. هى ليست كل الحقائق فيما يخص التعامل مع الجرائم التى ترتكبها إسرائيل هنا وهناك. ثمة حقائق أكثر إيلامًا مما سبق.