رحم الله أستاذنا الجليل د.حسين نصار (1925 ــ 2017)، أستاذ الأدب العربى، وشيخ المحققين المعاصرين، الذى رحل عن عالمنا صباح الأربعاء الماضى، بعد رحلة مديدة عامرة بكل ما يحلم به إنسان وهب حياته للعلم والمعرفة والأثر الطيب. كان ــ رحمه الله ــ شجرة مورقة وارفة الظلال، مثقلة بالثمار الحلوة الطيبة من كل صنوف الإنجاز المشرف؛ المعرفة الواسعة، والعلم الوافر، والرصانة الأكاديمية، والإسهام الغزير المتنوع، والتواضع الجميل.
ينتمى حسين نصار إلى الجيل الثالث أو الرابع الذى تتلمذ على يد طه حسين، وتخصص فى الدراسات الأدبية واللغوية معا، وكان شأنه شأن أبناء جيله من الموهوبين قد التحق بالسلك الجامعى عقب تخرجه سنة 1947، ومن حينها بدأت رحلة طويلة من الإنتاج الزاخر والإنجازات الضخمة والمساهمات العلمية والفكرية والثقافية التى بلا شك خلدت، وستظل تخلد، اسمه فى مدونة الأعلام العرب الكبار.
أول ما عرف الأوساط الأدبية والثقافية، فى مصر والعالم العربى، باسم حسين نصار عملاه المرجعيان «نشأة الكتابة الفنية فى الأدب العربى»، و«المعجم العربى نشأته وتطوره»؛ الأول كان رسالته للماجستير التى حصل عليها عام 1949؛ والثانى الدكتوراه التى نالها سنة 1953.
وكلاهما، ومنذ كتبهما نصار، يعدان كتابين مرجعيين أساسيين لا غنى عنهما فى مجاليهما حتى اللحظة، خصوصا «المعجم العربى» الذى يعد أوفى وأشمل دراسة كتبت حتى الآن عن المعجم العربى وتاريخه، استقصت المدارس التأليفية والمناهج التصنيفية التى احتوى عليها هذا العلم العريق، ولم يزد عليها أحد من بعده، مدرسة واحدة أو اتجاها آخر فى التأليف المعجمى لدى العرب حتى اليوم.
اللافت أن الرجل ومنذ بواكيره كان حريصا على الجمع بين أشتات متفرقات؛ الأدب واللغة، القديم والحديث، التراث والمعاصرة، العربية والإنجليزية، السيرة والتراجم، كما تظهر موسوعيته بوضوح فى مؤلفاته ذات الموضوعات المختلفة؛ حيث ألف فى إعجاز القرآن، والأدب، واللغة، والتاريخ، وموسيقا الشعر، وترجم فى كل ذلك أيضا.
وفى تحقيق التراث ترك ما لا يقل عن 25 كتابا محققا راوحت بين الرسائل الصغيرة والدواوين المفردة والأعمال الضخمة التى تتكون من عشرات المجلدات، وهو فى هذا كله لا يفارق تقاليد العظماء الذين تخرجوا فى الجامعة المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين، وعلى رأسهم أستاذه طه حسين.
بالتأكيد من يحاول حصر أعمال حسين نصار، وتصنيفها، والتعريف بها، سيصاب بغير قليل من الدوار، وسيدهش من غزارة الإنتاج، وقيمته وأهميته، وجمعه بين مجالات وتخصصات عدة ومتباينة، فمن إعجاز القرآن الذى عكف على تأليف أكثر من 16 مجلدا فى موضوعاته؛ ومسائله وقضاياه، إلى التاريخ الإسلامى ودقائقه، وله فى ذلك كتاب قيم هو «نشأة التدوين التاريخى عند العرب»، وكتيب آخر صغير الحجم كبير القيمة اسمه «الثورات الشعبية فى مصر الإسلامية»؛ أرخ فيه للثورات المصرية فى القرون الثلاثة الأولى التى تلت الفتح الإسلامى لمصر، بالإضافة إلى كتابين مترجمين لا يستغنى عنهما مهتم بالتاريخ ولا متخصص حتى اللحظة؛ وهما «دراسات عن المؤرخين العرب» لمرجليوث، و«المغازى الأولى ومؤلفوها» لهورفنتس.
أما «ديوان ابن الرومى» الذى يقع فى ستة مجلدات، وهو أضخم دواوين العربية وأكبرها على الإطلاق، فقد قام بتحقيقها حسين نصار، ولم يكتف بتحقيق الديوان فقط، بل ترجم كتابا مرجعيا مهما عن حياته وشعره للمستشرق روفون جست؛ «ابن الرومى حياته وشعره»، وهو من أشمل الكتب التى تعرضت للشاعر وشعره فى تاريخ الأدب العربى، وترك أيضا كتابا مؤلفا عنه!
كما قدم دراسات مهمة وقيمة فى فنون النثر أيضا، وأنواعه القديمة، فقدم مثلا تحقيقه لنص «رحلة ابن جبير»، واحدة من أهم نصوص أدب الرحلة فى تراثنا القديم، وكتب دراسته المهمة «أدب الرحلة» وهى من الكتب الممتازة التى تقدم معرفة شاملة وكلية بهذا الفن العريق فى التراث العربى.
كان حسين نصار طاقة فريدة جمعت بين التأليف والتحقيق والترجمة، جنبا إلى جنب التدريس الجامعى والإشراف على الرسائل العلمية والمساهمة فى الندوات والمؤتمرات؛ طاقة جبارة تثير أسئلة ملحة حول هذه القدرة البشرية والإرادة الصلبة التى تجعل صاحبها ينجز كل هذا الحجم من المؤلفات والأعمال والتحقيقات والكتب المرجعية فى بابها.
رحلة عامرة بالإنجازات والتاريخ المشرف.. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.