«ثروت عكاشة» راسم السياسات - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 3 أغسطس 2025 5:27 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

«ثروت عكاشة» راسم السياسات

نشر فى : السبت 2 أغسطس 2025 - 9:10 م | آخر تحديث : السبت 2 أغسطس 2025 - 9:10 م

(1) بثٌّ مرئى ليوم كامل على شاشة النيل الثقافية، خصصته يوم الأربعاء الماضى ضمن الاحتفاء بذكرى ثورة يوليو 1952، للوزير الفنان المثقف راسم السياسات الثقافية المصرية فى الحقبة الناصرية؛ ومؤسس البنية التحتية الثقافية، المرحوم الدكتور ثروت عكاشة (1921-2012).
وتجربة الدكتور ثروت عكاشة أعمق وأوسع وأكبر من أن تختزل فى عناوين عريضة مثل أول وزير للثقافة أو مؤسس البنية التحتية الثقافية أو الراعى الرسمى للنشاط الثقافى الذى شهدته مصر منذ خمسينيات القرن الماضى وحتى وفاة عبد الناصر 1970.
وقد حاولتُ فى دراسةٍ مستفيضة نشرتها قبل بضعة أعوام فى مجلة (فنون)، أن أقرأ سيرة الدكتور ثروت عكاشة، وزيرًا ومثقفًا ومنتجًا للمعرفة، بوصفه الأب الشرعى لمؤسسة الثقافة المصرية فى الحقبة الناصرية، مسلطًا الضوء على تكوينه المدهش الذى جمع بين الانضباطية النظامية والشغف اللا متناهى بالمعرفة والثقافة والانفتاح الحضارى، ما مكنه فى النهاية أن يصوغ رؤيته الثقافية الشاملة.
وركزتُ فيها أيضًا على دوره التاريخى فى إنقاذ آثار النوبة، إلى جانب إنجازاته الفكرية والمعرفية كمؤلف ومؤرخ للفن، ومحقق للتراث. كما توقفت عند جهوده فى الترجمة لأعمال جبران خليل جبران، ومشروعه الموسوعى الفريد «العين تسمع والأذن ترى» الذى صدر منه فى حياة صاحبه 28 مجلدًا، ويُعدّ من أضخم المشاريع العربية فى تأريخ الفنون البصرية.
(2)
ثروت عكاشة مثّل حرفيا وعمليا نموذج الوزير «المثقف» و«رجل الدولة المسئول» عن وضع السياسات وتنفيذها وفق الرؤية العامة للقيادة السياسية عمومًا ومقتضيات الحاجة على الأرض، والظرف السياسى والاجتماعى والسياق العام الذى كانت تمر به مصر آنذاك.
كان يعى جيدًا أنه لا سياسة بدون «رؤية»، ولا رؤية بدون «معرفة»، وتحديد المهام والأولويات، ومن ثم تشخيص الواقع وإدراك ماهية الأمور على الأرض: كيف تجرى وما هو واقع الحال؟ ماذا لدينا؟ وماذا ينقصنا؟ بمن نستعين؟ وكيف نحدد مسارا للإدارة وتنفيذ المهام بعد رسم السياسات ووضع الخطط؟
ربما كان هذا ــ فى نظرى ــ أخطر ما تمخضت عنه تجربة ثروت عكاشة الخصبة الثرية، تجربة بقى منها الكثير والكثير، وتجربة ما زالت قادرة على منحنا عديد الدروس والأفكار والتصورات لفهم ماهية «السياسات الثقافية» ورسمها، والانطلاق منها فى وضع الخطط والاستراتيجيات، وتنفيذ المهام.
ولعل اتساع هذه التجربة وانضباطها الكبير وعمق أثرها وجذورها الممتدة فى البنية الثقافية التحتية حتى وقتنا هذا تجعل من الإحاطة بجوانب هذه التجربة وتفرعاتها فى هذه المساحة أمرا مستحيلا! فقط أشير إلى نقطة فى بحر إنجازات ثروت عكاشة المسئول الثقافى الأول فى مصر فى حقبة من أهم وأخطر حقب التاريخ المصرى المعاصر.
(3)
تاريخيا وعمليا يمثل ثروت عكاشة فعليًا أحد قادة العمل الثقافى الكبار فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وقد كان صاحب مشروع ثقافى (وطنى) لملم خيوطه وصاغ ملامحه من تقديره الشخصى واحترامه الحقيقى للعقول المصرية، والخبرات المصرية، والكفاءات المصرية فى عهده، وقد كان يعرف للناس أقدارها.
هذا المشروع تولى قيادته، والإشراف عليه، عندما تولى حقيبة الثقافة لمرتين، الأولى خلال الفترة من 1958 إلى 1962 ثم تركها وعاد إليها عام 1966 ليخرج للمرة الثانية 1970؛ أى أنه قضى فى منصبه الرسمى كوزير للثقافة المصرية إبان حكم عبد الناصر قرابة الأعوام الثمانية، دشَّن فيها عكاشة البنية التحتية الحقيقية للثقافة المصرية التى ما زلنا نتوكأ عليها ونقتات منها، رغم ما أصابها من وهن ونخر فيها من جمود، لكنها ما زالت باقية تحمل عبقًا لا يزول من تاريخ مصر الثقافى.
أنشأ المجلس الأعلى للثقافة (المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب وقتها)، ومؤسسة النشر الرسمية التابعة للدولة، وأسَّس أكاديمية الفنون، ودار الكتب والوثائق القومية، وفرق دار الأوبرا المختلفة، والسيرك القومى، والمسرح القومى، ومسرح العرائس، والثقافة الجماهيرية (هيئة قصور الثقافة) الذى كان شريانًا ثقافيًّا حيا فى مختلف أقاليم مصر.
(4)
هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى كان من الثقافة والوعى والاستنارة والنظرة المنفتحة ليهتم باستقدام خبراء عالميين للمساعدة فى تأهيل الكوادر الوطنية لجمع التراث المصرى، والإفادة من تجاربهم السابقة فى بلدانهم، إضافة إلى الدور التاريخى الذى قام به فى توجيه نداء عالمى لإنقاذ آثار النوبة بعد تأسيس السد العالى، وإعادة بناء معبد أبو سمبل فى أسوان.
وتأسيس مشروع «الألف كتاب» الذى كان معنيًّا بنشر الترجمات لروائع الفكر والأدب والتراث الإنسانى باللغة العربية، إضافة إلى تأسيسه لمشروعات النشر الثقافى الجماهيرى التى لعبت دورا بالغ الأهمية فى تشكيل وعى وفكر أجيال من المصريين؛ من أهمها سلسلة «المكتبة الثقافية»، و«أعلام العرب»، و«المسرح العالمى»، و«الرواية العالمية».. وقد كانت هذه السلاسل، وغيرها، هى البذرة الملهمة لمشروع (مكتبة الأسرة) الذى دشن فى 1994 وأصبح أهم مشروع ثقافى حقيقى وأصيل امتدت آثاره وتأثيراته لأجيالٍ وأجيال (كاتب هذه السطور واحد من أبناء هذه الأجيال التى تكونت ثقافتها، وتراكمت معارفها، ونمت مداركها بفضل مئات الكتب التى قرأها فى مكتبة الأسرة).
(وللحديث بقية)