صلاح ومرموش.. خلطة نجاح وخطة تنمية - عاصم أبو حطب - بوابة الشروق
الإثنين 3 مارس 2025 1:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

صلاح ومرموش.. خلطة نجاح وخطة تنمية

نشر فى : الأحد 2 مارس 2025 - 6:40 م | آخر تحديث : الأحد 2 مارس 2025 - 6:40 م

حتى عقود قريبة، لم يكن للاعبين المصريين حضور لافت على الساحة الكروية الدولية؛ إذ اقتصر ذلك على تجارب قصيرة فى أندية أوروبية متوسطة، اتسمت بأداء تقليدى وإنجازات متواضعة لم تترك صدى كبيرًا. وكانت فكرة الاحتراف الخارجى شبه غائبة عن اهتمامات الأندية المحلية، وربما لم تخطر على بال اللاعبين أنفسهم. أما اليوم، فنجد محمد صلاح وعمر مرموش وغيرهما يلمعون فى أندية أوروبية مرموقة، ينافسون كبار اللاعبين العالميين فى الأداء والإنجازات، ويصبحون حديث الصحافة العالمية ووكالات الإعلام الرياضية. والسؤال: ما الذى تغيّر لينتقل اللاعب المصرى من غياب كامل إلى نجومية مطلقة؟

يُقال إن من تحدث فى غير فنه وخاض فى غير تخصصه أتى بالعجائب، ولست من أهل كرة القدم ولا من متابعيها، لكن الحكمة ضالة المؤمن، ومن يسعى للتنمية يلتقط الحكمة حيثما وجدها حتى إن كانت بين أقدام صلاح ومرموش. وعلى الرغم من قناعتى بأن نجاحاتهما هى تجارب فردية تشكلت فى أغلبها عفويًا دون تخطيط مؤسسى منظم، فإنها أثمرت عن إنجازات مبهرة. لذا، فمن الضرورى أن نُمعن النظر فى تحليلها لعلنا نستخلص منها دروسا نستطيع إعادة تطبيقها فى قطاعات أخرى لدعم النمو الاقتصادى والتنمية.

 •  •  •

إن أهم مكونات هذه الخلطة يتمثّل فى إحداث تحوّل اجتماعى يخلق وعيًا جمعيًا داعماً للتنمية. ويتجلى ذلك فى الكيفية التى تغيرت من خلالها نظرة الأسر لكرة القدم كمسار مهنى لأبنائها من الرفض إلى القبول. فقبل عقود قليلة، لم تكن كرة القدم خيارًا مهنيًا يُقارن بالمجالات التى اصطلحنا على تسميتها مجالات القمة كالطب والهندسة، التى تضمن مكانة اجتماعية مرموقة ودخلًا ماديًا جيدًا. ولذلك، فقد تربت أجيال على أن ممارسة كرة القدم والنبوغ الدراسى ضدان لا يجتمعان. وبفعل هذا التحول الاجتماعى، تبنت أسرة من الطبقة المتوسطة كأسرة محمد صلاح مثلاً موهبة ابنها؛ فيصطحبه الأب بين المحافظات، يسانده ويدعمه واثقًا بأن كرة القدم ستصنع له المستقبل والمكانة الاجتماعية. واليوم، نرى الأمهات على وجه الخصوص تسعين إلى تسجيل أبنائهن فى الأكاديميات الرياضية، وتتابعن تدريباتهم بشغف، وتشاركن فى الإشراف على نظمهم الغذائية حفاظًا على مستواهم الرياضى.

من منظور تنموى يمكن تفسير هذا التحوّل الاجتماعى بعدة أسباب ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية، من بينها تأثير العولمة والانفتاح التكنولوجى، إذ غدت كرة القدم جزءًا من الثقافة العالمية، فارتفعت قيمتها فى مجتمعنا المحلى، خصوصًا مع ظهور نجوم أصبحوا رموزًا ثقافية واجتماعية. كما لعبت وسائل الإعلام المحلية - بعيدا عن فكرة «تخدير الرأى العام» - دورًا فى تبديل نظرة الناس لكرة القدم، وأسهمت منصات التواصل الاجتماعى فى تعزيز قصص نجاح اللاعبين، ليصبحوا قدوات ملهمة للشباب؛ وبهذا صارت كرة القدم طريقًا واضحًا للترقى الاجتماعى وفرصةً لتحسين الأوضاع الاقتصادية وتستحق بالتالى الاهتمام والاستثمار.

•  •  •

لأن التنمية عملية تشاركية تتضافر فيها جهود مؤسسات المجتمع، فقد كان للقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدنى، كأكاديميات كرة القدم الخاصة ومراكز الشباب والأندية، دور بارز فى توفير بيئة حاضنة لظهور مواهب مثل صلاح ومرموش، حتى وإن كان معظمها يعمل فى إطار أهداف تجارية بحتة. فمع ارتفاع عائدات صناعة كرة القدم عالميًا، وجدت هذه المؤسسات فى كرة القدم مجالًا استثماريًا واعدًا على الرغم من عنصر المخاطرة، إذ يكفى نجاح تجربة تسويق لاعب واحد فى نادٍ محلى أو دولى لتحقيق عوائد تغطى النفقات الاستثمارية لسنوات. وقد ساهم ذلك فى تطوير البنية التحتية لصناعة كرة القدم، فحلت الملاعب الخضراء «النجيلة» محل ملاعب «الأجران» شيئا فشيئا وانتشرت فى الريف قبل المدن؛ مما سهّل اكتشاف المواهب وتنميتها، وتوسعت مراكز الشباب والأندية فى إنشاء أكاديميات تدريبية، واعتمد خريجو كليات التربية الرياضية التدريب مجالًا للعمل وأسسوا أكاديميات خاصة كمشروعات استثمارية صغيرة وبات لديهم مناهج علمية فى تطوير المهارات الكروية. ومؤخرا، قرأنا عن مقترح لإنشاء غرفة لصناعة الرياضة داخل اتحاد الصناعات المصرية بعد أن باتت صناعة لها مدخلاتها ومخرجاتها من العديد من الصناعات كالملابس والأدوات الرياضية وغيرها. وقد ساهم تضافر أو تزامن هذه الجهود فى خلق بيئة مناسبة لاكتشاف ودعم المواهب وفتح الفرص أمامها للنجاح محليًا وربما للوصول إلى العالمية.

وتكشف هذه التجربة عن رسالة بالغة الأهمية مفادها أن الحكومات لا ينبغى أن تحتكر التخطيط والتنفيذ فى مسيرة التنمية، بل ينبغى فتح المجال أمام القطاع الخاص والمنظمات المجتمعية للمشاركة الفاعلة فى هذه الجهود. فعندما تتكامل السياسات الحكومية مع المصالح الاقتصادية للقطاع الخاص، وتتوافق مع احتياجات وأولويات منظمات المجتمع المدنى، تتعاظم فرص النجاح من خلال تحفيز الاستثمار فى البنية التحتية والمؤسساتية لتقود فى نهاية المطاف إلى تحقيق تنمية شاملة ومستدامة.

•  •  •

وبتأمل برامج التحليل الكروى واستوديوهاتها نجد أنها أدت دورًا محوريًا فى تعزيز الاهتمام بكرة القدم وتحويلها من مجرد نشاط ترفيهى إلى حالة حوارية أشبه بعملية تقييم علمى. فعندما يجلس محللون، يُفترض «نظريًا» أنّهم يمتلكون خبرات واسعة فى مجالات التدريب والتكتيك، بل ويدعمون هذه الجلسات أحيانا بخبرات دولية للاعبين ومدربين سابقين فى أندية أوروبية مرموقة، وتمتد نقاشاتهم لساعات قبل وبعد المباريات لتتناول بنقدٍ بناء خطط المدربين وأداء اللاعبين ومستوى الفرق، يصبح المتابع (المواطن) شريكًا فى عملية تقييمية، ويتحوّل فضوله إلى رغبة فى التعرف على أساسيات اللعبة ومهاراتها وخططها. والأهم من ذلك، فإن هذه الاستوديوهات التحليلية تُتيح مساحةً مرئية ومسموعة لمختلف الآراء ووجهات النظر، فتجد تحليلات متباينة، وأحيانًا متعارضة، حول المباراة أو قرارات الحكام وأداء اللاعبين، وهو ما يُمثّل صورة مصغّرة لحوار مجتمعى نقدى يقر بحق الآخر فى التعبير عن وجهة نظره ويضفى حيوية تُشجّع تعددية الآراء.

إذا انتقلنا من هذا النموذج الرياضى إلى ميادين التنمية الاقتصادية، سنلاحظ بمرارة أنّ هذه المساحات الحوارية التحليلية تكاد تكون غائبة عن الملفات التنموية الأكثر إلحاحًا، كالحديث عن التضخم والديون الخارجية ومشكلات التعليم والصحة. إن آخر ما يستدعيه ذهنى فى هذا الشأن يعود إلى التسعينيات عندما كان الأستاذ عصام رفعت يقدّم برنامجه الرائد «المنتدى الاقتصادى»، الذى كان يفتح بابه لنخبة من الخبراء فى حوار علمى هادئ ومتعدد الرؤى حول قضايا الاقتصاد والمجتمع. ومن هنا يتبلور أمامنا درس تنموى مفاده أنّ الحوار المجتمعى القائم على خبرة متخصصة وتحليل معمق للمعطيات يفتح آفاقًا أوسع لفهم احتياجات المجتمع وتشخيص التحديات واقتراح الحلول والتدخلات ويُعدّ مرتكزًا لنجاح خطط التنمية واستدامتها.

•  •  •

أخيرا، نأتى لدور الدولة ومؤسساتها، وهو ما تعمدت تأجيله إلى خاتمة الحديث لاعتقادى بأنه بدأ بعد أن أيقنت الدولة أن قيمة صلاح ومرموش تتجاوز مهاراتهما الكروية لتشكل امتدادًا للقوة الناعمة المصرية؛ فانعكس ذلك مؤخرا فى الاستثمار فى البنية التحتية ودعم المواهب الشابة ورعايتها، إلى حد جعل صلاح ومرموش وغيرهما شخصيات عامة تُكرَّم فى مناسبات رسمية وتُستدعَى للمشاركة فى مناسبات وطنية.

من هذه الزاوية، ينبغى للحكومة أن توسع رؤيتها لتحتضن وتدعم العقول الواعدة فى المجالات الأخرى، فتولى الباحثين الشباب والخبراء المبدعين فى مجالات العلوم والابتكار وريادة الأعمال اهتمامًا مماثلاً، من خلال إنشاء حاضنات أعمال متخصصة، وتوفير تمويل للأبحاث التطبيقية، وتسهيل تسجيل براءات الاختراع، وتقديم رعاية إعلامية تسهم فى تعزيز حضورهم المجتمعى والاستفادة من جهودهم وقدراتهم الإبداعية فى دفع عجلة التنمية فى مختلف المجالات.

•  •  •

ختامًا، أستطيع أن أجزم أن صلاح ومرموش لن يكونا الأخيرين، وأن هناك آخرين قادمين؛ إذ إن «خلطة» نجاحهما باتت مفهومة وأضحت مكوناتها معلومة. وإذا كانت هذه «الخلطة» قد أنتجت «فخر العرب» على المستطيل الأخضر، فإن مكوناتها وأدواتها لا شك تصلح لأى «خطة» للتنمية فى مجالات العلوم والاقتصاد والتكنولوجيا للمجالات الأخرى. كل ما ينبغى علينا هو أن نُحدث تغييرًا فى الوعى المجتمعى يُفسح المجال لتقدير العلماء والمبتكرين كما نُعلى من شأن اللاعبين. وكما انتشرت الملاعب التى تحتضن المواهب الكروية، يجب أن تنتشر المراكز البحثية والمعامل الحديثة فى المدارس والجامعات. وبجانب ذلك، ينبغى أن تقود الدولة استثمارًا حقيقيًّا فى العقول الشابة، عبر المنح الدراسية ومبادرات الاحتضان العلمى والابتكار، على أن يترافق ذلك مع منابر إعلامية و«استوديوهات تحليل» لمناقشة الأولويات التنموية والمشكلات الاقتصادية، ودعم إعلامى يُسلّط الضوء على النجاحات البحثية والعلمية بالشكل ذاته الذى يحدث مع البطولات الرياضية؛ فيصبح العلماء والمفكرون والأدباء قدوة للأجيال القادمة ويحملون لقب «فخر العرب» فى كل مجال يتخصصون فيه.

عاصم أبو حطب أستاذ مساعد بقسم الاقتصاد بالجامعة السويدية للعلوم الزراعية
التعليقات