(1)
تدين مصر، بل يدين العالمان العربى والإسلامى للشيخ الجليل رفاعة رافع الطهطاوى بأكبر فضل وأعمقه فى إحداث حركة التغيير الثقافى الذى غيَّر وجه الحياة فيها، ومن ثم فى العالم العربى كله.
كان واحدًا من المقربين إلى شيخه الأجل والأثير حسن العطار (1766-1835)، ذلك الشيخ الذى اقترب من علماء الحملة الفرنسية على مصر، وأبصر امتلاكهم لعلومٍ غريبة عن الواقع العربى المعاصر، وإن لم تكن أصولها غريبة عن تراث الأجداد، فأدرك أن التصدى للتحدى المفروض لا بد له من تغيير جذرى عميق وشامل، تمتلك فيه الأمة وبه أسلحة هؤلاء الخصوم، وعبر عن ذلك فى كلماته الموجزة: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، وأن يتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها!»
وهو ما حققه تلميذه النجيب، وابنه فى المعرفة والثقافة الشيخ رفاعة الطهطاوى الذى صار بحق «أبا النهضة والتنوير والتحديث» فى مجرى الحياة الفكرية والثقافية الحديثة.. فهو أبو الديمقراطية المصرية الحديثة، وأبو الصحافة المصرية فى العصر الحديث، وأول من نادى بتعليم المرأة وتحريرها من أسر الجهل والتقاليد البالية، وإليه يرجع الفضل فى غرس فكرة «الوطنية المصرية»، وتطرّق إلى فكرة «المواطنة» كأساس للمساواة بين المواطنين فى البلد الواحد، تحت مظلة الدستور والقانون، دون النظر إلى الدين أو الجنس أو العرق.
وهو، فى الوقت ذاته، العالم الأزهرى المعمم الذى سعى إلى الكشف عن المضمون التقدمى والحضارى والتنويرى للإسلام، ومطابقته لروح العصر وكل عصر، بما أعطاه من مكانةٍ كبرى للعقل والاجتهاد فى شئون الحياة؛ إذ دعا إلى فهم الدين والفكر الدينى كله فهمًا عقلانيًا مستنيرًا، وكان منطلقه فى ذلك أن القيم الخالدة للإسلام تستوعب كل تطور لمصلحة الإنسان متى فهمنا الدين الحنيف على وجهه الصحيح.
وكان الطهطاوى فى كل ما قدّم من خدماتٍ ومساهمات جليلة لهذا الوطن، إنما يصدر من منظور نفسٍ قادرة على التحليل والفرز واستيعاب الجديد فى إطار الثقافة التقليدية الراسخة، وذلك بالبحث عن أوجه التماثل فى التراث مع العناصر الإيجابية من تلك الحضارة الحديثة، وفى بعض الأحيان بالتفسير الجديد (تقديم قراءة جديدة) لذلك التراث القديم..
(2)
كانت هذه خلاصة مركزة غاية التركيز عن معنى واسم وقيمة الطهطاوى الذى مرت على ذكرى ميلاده 151 عاما، وما زلنا نحن أحفاده وأحفاد أحفاده نعانى أشد المعاناة فى البحث عن طريق للنهضة والمستقبل نحسم فيه القضايا المعلقة منذ زمنه ولم تحسم بعد حتى وقتنا هذا!
الغريب، ورغم مرور كل هذه المدة الطويلة ورغم عشرات بل مئات الكتب والمؤلفات عن الطهطاوى، من الملاحظ غيابه غيابا شبه تام عن تكوين وثقافة وممارسة أجيال وأجيال من المصريين، أريد لهم بقصد أو بدون قصد (والله أعلم!) أن ينقطع ما بينهم وبين تراثهم القريب المستنير الواعى الساعى للبحث عن المستقبل وعن صنع المستقبل بارتياد الطريق الوحيد لذلك؛ طريق العلم والمعرفة والنور وإعمال العقل وترسيخ ملكة التفكير والنقد وتهيئة التربة لتخريج أجيال واعية مستنيرة قادرة على حمل الأمانة وواعية بانتمائها الوطنى والفكرى والحضارى والثقافى، وقادرة أيضا على صنع المستقبل.. فهل نجحنا فى ذلك منذ الطهطاوى إلى وقتنا هذا؟!
علم ذلك عند التاريخ وأهل العلم والبصر بشئون الدنيا والمجتمع والناس!
من هنا تبرز على الفور قيمة هذا النص المهم وإعادة نشر كتاب المرحوم أحمد أمين بعنوان «الشيخ رفاعة الطهطاوى مؤسس النهضة الحديثة» وقد أشرنا إلى التعريف به سريعا فى المقال الماضى، وكيف تخلق هذا النص من سلسلة مقالات متصلة كتبها ونشرها فى مجلته الشهيرة (الثقافة).
كيف رأى - إذن - المرحوم أحمد أمين شخصية الطهطاوى وقيمته ودوره؟ وكيف قرأ سيرته وقدمها بهذا التكثيف والإيجاز؟ وكيف اطمأن إلى وصفه الدقيق والصائب «مؤسس النهضة العلمية الحديثة؟».
(3)
فى هذا الكتاب صغير الحجم جليل القدر والقيمة سنتتبع سيرة الشيخ رفاعة منذ ميلاده بصعيد مصر فى أكتوبر 1801 وحتى وفاته فى مايو عام 1873.
وبين التاريخين سنرى رحلة كفاح علمى وفكرى وثقافى غير مسبوقة، وسنرى اضطلاع الرجل بمهام جسام فى دولة محمد على باشا، وفى دولة حفيده الخديوى إسماعيل من بعد سنرى كيف مارس الطهطاوى دور المثقف الوطنى الواعى باحتياجات وطنه، وبضرورة تهيئة التربة المصرية - والعربية والإسلامية - لغرس بذور العلم والمعرفة والحداثة والتمدن والحضارة، وقدم أول محاولة جادة وحقيقية للوصل السليم بين قيم الإسلام الحضارية والإنسانية العظيمة، وبين روح الحضارة الحديثة، والقيم التى أدت ازدهار العلوم والمعارف والفنون والتمدن الإنسانى.
كان الطهطاوى مثالًا فذًّا لذلك المثقف الذى وعى تراثه وعيًا أصيلًا وعميقًا وراسخًا، وانفتح كذلك انفتاحا رائعًا على الآخر، ولغته وثقافته وتمدينه، وحاول - قدر جهده - أن يتمثل هذه الخبرات والمعارف وأن يفيد منها وينقلها إلى أهله وأبناء وطنه.. (وللحديث بقية)