الاستثنائية الأمريكية American Exceptionalism هو تعبير أعاد الاقتصاديون الأمريكيون صكه للتعبير عن عدم استجابة الاقتصاد الأمريكى للصدمات والتحوّلات بل والسياسات الاقتصادية على النحو الذى تفترضه النظريات السائدة.
فإذا كان الاقتصاد الأمريكى ينمو بمعدلات فاقت التوقعات، على الرغم من تشديد الفيدرالى الأمريكى للسياسة النقدية بمعدلات قياسية، فى محاولة لمحاصرة تضخم عنيف غير مسبوق منذ أربعين عامًا، فإن ذلك النمو المخالف لتوقعات التباطؤ يعكس تلك الاستثنائية فى تقدير ذلك النفر من الاقتصاديين. وإذا كانت معدلات التوظّف ترتفع على الرغم من ارتفاع تكلفة الاستثمار وارتفاع معدلات التضخم، وإذا كان الدولار يقوى أمام مختلف العملات دون أن تتضرر الصادرات أو الأوراق المالية الأمريكية بشكل يعكس تلك القوة، فإن الاستثنائية أيضًا تكون حاضرة لتفسير ذلك السلوك. وحينما تحيط الولايات المتحدة العالم بسياسات تجارية حمائية تعكس ارتدادًا صريحًا عن العولمة، فإن عدم تضرر سلاسل الإمداد الأمريكية نتيجة لتلك السياسات، هو كذلك من تجليات الاستثنائية الأمريكية!
تلك الاستثنائية ما هى إلا «ريع القوة» الذى تحصّله الولايات المتحدة من العالم تحت تهديد الهيمنة العسكرية والسياسية، والسيطرة على المحيطات ومنافذ وطرق التجارة. وإذا كان لتلك الاستثنائية أساس اقتصادى قوامه سيطرة الدولار الأمريكى على احتياطات الدول، وحركة التجارة، وتقييم الديون، وسيطرة أسواق المال الأمريكية على تدفقات رءوس الأموال، والسيطرة الأمريكية على مؤسسات التمويل والتصنيف الدولية.. فإن استمرار تمتّع الولايات المتحدة بتلك المزايا بشكل منفرد، على الرغم من نكوص إدارتها المتكرر عن النظام العالمى الذى تولّى كبره المعكسر الغربى منذ بريتون وودز، هو ما أصفه فى هذا المقال بـ«ريع القوة».
هذا الريع هو ما أشرت إليه فى مقالات سابقة، أكدت خلالها حتمية تحريك الاحتياطى الحقيقى لثروات الدول العظمى فى العصر الحالى، وهو ترسانة السلاح التى تقدّر قيمتها بتريليونات الدولارات من الأرصدة غير المستغلة.. ريع القوة هو الذى يدفع الاقتصاد الأمريكى إلى النمو والتوظيف مع التشديد النقدى والتقشف المالى.. هو الذى يدفع الدولار إلى أعلى مُحاطًا بالفائدة المرتفعة والإجراءات الحمائية فى السياسة التجارية، ومع ذلك يمكنها معالجة اختلال ميزان التجارة.. ريع القوة يفرض على الدول استيراد السلاح الأمريكى بتكلفة عالية، ويفرض على مختلف الدول القبول بصفقات مجحفة لعدم الدخول فى مواجهة مع مارد الغرب المضطرب.
• • •
الإدارة الأمريكية الجديدة تخلّت بشكل سريع عن الكثير من أدوات القوى الناعمة المتمثلة فى برامج المساعدات، وتبنّى الصوابية السياسية فى العلاقات الدولية، وقيادة العالم الحر تحت ألوية القيم والحريات وحقوق الإنسان، والاصطفاف مع أوروبا فى مواجهة المطامع الروسية فى أوكرانيا، والانحياز لحماية البيئة والتصدّى لتغير المناخ.. تخلت عن كل ذلك خلال أيام من وصول الرئيس ترامب ومعاونيه إلى البيت الأبيض، لصالح فكر برجماتى تجارى قح يعمل على تراكم الثروة الناتجة عن تحقيق فوائض تجارية مع مختلف دول العالم، وتوطين سلاسل الإمداد محليًا، وعقد صفقات لا نهائية مع مختلف دول العالم مقابل أى موقف داعم أو قرار أممى.
الحمائية الأمريكية تعاقب الجميع لصالح العائد المادى المباشر الذى يجب أن يتحقق للولايات المتحدة ولو كان ذلك على حساب حلفائها التقليديين. الدولة التى تحقق فائضًا فى ميزانها التجارى مع الولايات المتحدة لا يمكن اعتبارها دولة صديقة فى العرف التجارى الترامبى، بهذا المنطق يجوز استعداء ألمانيا التى تحقق فائضًا يناهز 67 مليار دولار مع الشريك التجارى الأمريكى. الفيلسوف والسياسى الفرنسى «مونتسكيو»، صاحب كتاب «روح القوانين» أكد منذ القرن الثامن عشر على أن غياب التجارة بين الدول يساعد على تأجج الصراعات والحروب، لكن سياسات ترامب تقوّض التجارة، وتدفع العالم اليوم فى اتجاه معادلة صفرية لا يجوز أن يربح فيها أحد بخلاف فتوة العالم العظيم.
كانت مشاركة نائب الرئيس الأمريكى فى قمة الذكاء الاصطناعى الذى استضافته باريس، فى فبراير الماضى، كاشفة عن هذا البعد فى العقيدة الأمريكية حديثة الكشف، التى تأمر العالم كله أن يدير وجهه عن أية منصات للذكاء الاصطناعى بخلاف تلك التى تنتجها الولايات المتحدة الترامبية، مشددًا فى الوقت ذاته على ضرورة عدم إخضاع تطبيقات الذكاء الاصطناعى للقيود، وهو ذات المسار الذى تتبناه الإدارة الأمريكية فيما يعرف بتخليص الاقتصاد الأمريكى من القيود التنظيمية de-regulation. لكن بكل تأكيد ليس ثمة ضمانة على أن تلتزم الإدارة الأمريكية بأية توجهات تنظيمية -أو لا تنظيمية- إذا ما ترتب على ذلك صعود جديد للمارد الصينى الذى تمكّن من التكيّف مع كل قواعد اللعبة الغربية عبر عقود.
• • •
استخدمت الولايات المتحدة منظمة التجارة العالمية وقوانين حماية الملكية الفكرية لتحول دون صعود نمور آسيا والصين اقتصاديًا إلا بفاتورة مرتفعة. وحينما كانت حرية التجارة والعولمة غير المقيدة تحقق المصالح الأمريكية لم يكن أحد يملك معارضتها. وحتى لا تخالف الدول المتقدمة التزامها بحرية التجارة، ومع عدم إمكانية فرض قيود كمية وتعريفة جمركية مقوّضة، كان عليها أن تبحث عن معايير شديدة التقييد من الناحية البيئية والجودة والسلامة.. كمحاولة لوقف تدفق منتجات آسيا إلى الأسواق الغربية.. ثم تطور استخدام قضايا الإغراق ضد معظم مصدرى الدول النامية لمعاقبة من استطاع منهم الوفاء بالمتطلبات الفنية (ومختلف القيود النوعية). الارتداد عن العولمة يتم اليوم بعدما تبيّن أن النظام العالمى لم يعد يخدم هدف تراكم الثروات فى الولايات المتحدة ثم لدى حلفائها التقليديين.
لا تستغرب إذن أن يستضيف الرئيس الأمريكى رئيس أوكرانيا فى البيت الأبيض محاولًا إخضاعه لشروط مجحفة لتسليم ثروات بلاده المعدنية للولايات المتحدة، كمقابل للحماية العسكرية من روسيا، والتى لم توقف الأخيرة عن احتلال بلاده وتجريدها من كل شىء! الحماية الأمريكية مدفوعة الأجر لا توقف الاحتلال، لكنها فقط تضمن إرفاد الدول بالسلاح.. السلاح مقابل الثروات، هى إذن الصيغة المباشرة الصادمة للاستثنائية الأمريكية المستدامة بريع القوة والتلويح باستخدامها ضد الأعداء أو منعها عن الحلفاء.
ظنى أن الصين تترقب فى هدوء أن تلوح فرصة واحدة تملأ من خلالها فجوة القيادة الرشيدة للعالم، لكنها تريد ألا تقيم هذا التوازن على أنقاض البشرية. فإدارة الصين تتجنب تصعيد المواجهة مع الولايات المتحدة رغم التصعيد المستمر من إداراتها المتعاقبة بين ديمقراطى وجمهورى. فإدارة بايدن الديمقراطية قامت أيضًا باستفزاز الصين وتحدى المبدأ الوحيد الذى لا تتخلى عنه الصين أبدًا فى مختلف اتفاقاتها، وهو مبدأ «صين واحدة موحّدة»، من خلال زيارة رئيس مجلس النواب نانسى بيلوسى فى وفد للكونجرس لتايوان.. وقبل ذلك كانت إدارة ترامب الأولى قد شنّت حروبًا تجارية ضد الصين، وها هى إدارته الثانية تبدأ جولة جديدة من الحروب التجارية ضد العالم كله، وفى مقدمته الصين!
تتحوّل الصين تدريجيًا إلى دولة متقدمة تحفّز نمو اقتصادها بالاستهلاك لا بفائض الصادرات أو الاستثمار كما كانت الحال منذ عقود.. بدا ذلك واضحًا من إعلانها مؤخرًا عن خفض مستهدف التضخم لأول مرة إلى مستوى مستهدف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى.. بهذا التحوّل كانت الصين تتأهب للتصدّى لحروب التجارة (منذ سنوات)، وهى السوق الكبرى التى يمكن أن تكتفى ذاتيًا لو أرادت الانكفاء على ذاتها لأطول فترة ممكنة.
التحولات الاقتصادية الراهنة سوف تعيد تشكيل مختلف القوى فى العالم، فهل نرى نتائجها قريبًا؟
كاتب ومحلل اقتصادى