فى كل مرة تشهد الأسواق الناشئة هزّات مالية أو تقلبات ناتجة عن تدفقات الأموال الساخنة، تعود إلى الواجهة علامات الاستفهام الكبرى حول الدور الذى تلعبه مؤسسات التصنيف الائتمانى الكبرى، والبنوك الاستثمارية الشهيرة، وشبكة التوصيات المالية التى تدّعى الحياد، بينما تعبث بالأسواق بسلوكٍ أقرب إلى التواطؤ المنتظم مع مصالح عملائها من كبار المستثمرين وصناديق التحوّط.
لقد كشفت الأزمات المالية المتعاقبة عن النمط المتكرّر لهذا التواطؤ. ففى أزمة الرهن العقارى عام 2008، منحت وكالات التصنيف الائتمانى مثل «موديز» و«ستاندرد آند بورز» أعلى درجات التصنيف (AAA) لأصول مالية شديدة التعقيد والرداءة، عُرف لاحقًا أنها لا تستحق سوى تصنيف غير استثمارى. تلك التصنيفات المضلّلة ساهمت فى تضخيم الفقاعة العقارية، وتمرير الأدوات المالية المسمومة، وإقناع المستثمرين بجدارتها، قبل أن ينهار كل شىء فى لحظة، وتهدر تريليونات الدولارات من قيمة الأصول والثروات.
ولم يختلف الأمر كثيرًا خلال أزمة «الدوت كوم» فى مطلع الألفية، حيث لعبت التوصيات المُغالَى فيها دورًا مشابهًا فى رفع تقييمات شركات لم تكن تملك نموذجًا ربحيًا فعليًا، واستخدمت البنوك الاستثمارية الكبرى مثل «جولدمان ساكس» و«ميريل لينش» نفوذها لترويج أسهم شركات التكنولوجيا الناشئة، قبل أن تنفجر الفقاعة ويخسر المستثمرون الصغار كل ما جمعوه، بينما خرجت البنوك الكبرى بأرباحها ومكافآت مديريها التنفيذيين.
لقد وُجِّهت عشرات الاتهامات إلى هذه المؤسسات، بعضها وصل بالفعل إلى ساحات القضاء. ففى تقرير نشرته «سى إن بى سى» عام 2020، أُشير إلى تغريم وكالة «موديز» مبلغ 864 مليون دولار فى تسوية مع وزارة العدل الأمريكية، على خلفية دورها فى تضليل المستثمرين بشأن تصنيف الأدوات المالية المعروفة بـ«CDOs» خلال أزمة 2008. كما غرّمت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية (SEC) وكالة «ستاندرد آند بورز» نحو 58 مليون دولار عام 2015، بسبب تضليلها المستثمرين فى أدوات القروض المضمونة.
أما بنك «جولدمان ساكس»، فرغم مركزه المحورى فى إصدار التوصيات والتقارير المؤثرة فى الأسواق العالمية، فقد لاحقته اتهامات عديدة بالتحيّز وممارسة ما يُعرف بـ«Front Running»، وهى ممارسة تتضمن استغلال المعلومات غير المتاحة للعامة لتحقيق مكاسب استباقية من خلال بناء مراكز سوقية لصالح عملائه أو لصالحه هو، قبل أن تنتشر المعلومات على نطاق أوسع. وقد تورّط البنك فى واحدة من أكبر فضائح الفساد المالى فى التاريخ المعاصر، وهى فضيحة صندوق التنمية الماليزى 1MDB، التى أُسىء فيها استخدام أكثر من 4.5 مليار دولار من أموال الصندوق السيادى الماليزى، بالتعاون مع أطراف مصرفية وشخصيات سياسية. وقد رتّب البنك ثلاث عمليات إصدار سندات للصندوق، حصل منها على عمولات مرتفعة، وأقر لاحقًا بدوره فى تسهيل تلك العمليات المشبوهة، مما دفعه إلى تسوية قانونية ضخمة تجاوزت 2.9 مليار دولار مع السلطات الأمريكية والماليزية. واعترف أحد كبار المصرفيين فى البنك، تيم ليزنر، بالمشاركة فى عمليات التزوير وغسيل الأموال المرتبطة بالقضية، فيما لا تزال التحقيقات جارية بشأن أطراف أخرى.
هذه الممارسات، وإن لم تكن دائمًا مُجرَّمة بشكل مباشر فى تشريعات الأسواق، إلا أنها تتعارض بوضوح مع مبادئ النزاهة والعدالة وكفاءة السوق. شخصيًا، حينما كنت أشغل منصب المدير العام لإدارتى المخاطر والرقابة على التداول فى البورصة المصرية، كنت أحرص على رصد مثل هذه الممارسات، وخاصة تلك المرتبطة بالتوصيات المتحيّزة التى تسبق تحرّكات كبرى فى السوق، سواء من قبل شركات وساطة أو مستثمرين كبار على علاقة بمصدر التوصية. ورغم غياب نصوص قانونية صريحة تُجرم هذه الأفعال آنذاك، إلا أننى كنت أعمل على إحالة الحالات المشكوك فيها إلى الجهات الرقابية المختصة، إيمانًا بضرورة الدفاع عن شفافية السوق وحماية المستثمرين.
• • •
فى فضيحة CDO المعروفة باسم «Abacus» عام 2007، اتُهمت «جولدمان ساكس» بأنها سوّقت سندات مبنية على رهون عقارية تعلم مسبقًا بتعثّرها، بل وتعاونت مع أحد كبار المستثمرين (جون بولسون) فى تصميم هذه السندات لتفشل. ورغم التسوية التاريخية التى دفعتها المؤسسة عام 2010، والتى بلغت 550 مليون دولار لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، فإن أحدًا من كبار التنفيذيين لم يُحاسب، وكأن الفضيحة مجرد تكلفة عمل.
وحتى قبل ذلك، كانت «جولدمان ساكس» من بين المؤسسات التسع التى اضطرت إلى دفع 1.4 مليار دولار فى تسوية جماعية عام 2003، بعد الكشف عن استخدامها تقارير بحثية متفائلة صُمّمت لدعم عملاء طروحات أولية ضخمة، فى مخالفة واضحة للفصل المهنى المفترض بين البحث والاستثمار. وفى حالات أخرى، طالت التهم موظفين داخل البنك مباشرة. ففى عام 2023، أُدين بريجيش جويل، المصرفى السابق فى «جولدمان»، بتسريب معلومات داخلية لصديق له، ما مكّنه من جنى أرباح غير مشروعة بنحو 280 ألف دولار من تداولات دقيقة التوقيت.
• • •
أما فى فضيحة «Archegos Capital» التى هزّت السوق عام 2021، فقد كانت «جولدمان» أحد البنوك الرئيسية التى أدارت الحسابات المدينة لصندوق التحوّط، ثم سارعت إلى تصفية مراكزها الخاصة قبل تحذير الأسواق، ما ألحق أضرارًا جسيمة بالمستثمرين الآخرين. وفى يوليو 2025، وافقت «جولدمان ساكس» على تسوية بقيمة 120 مليون دولار مع هيئة الرقابة المالية الأمريكية بسبب التلاعب المرتبط بهذه القضية، دون إقرار قانونى بالذنب.
ولم تتوقف المخالفات على الجانب الأمريكى، بل طالت حتى أوروبا. ففى عام 2023، فرض البنك المركزى الأوروبى على «جولدمان ساكس» غرامة قدرها 6.63 مليون يورو، بعد اكتشاف تقارير غير دقيقة بشأن المخاطر الائتمانية لقروض قدمتها خلال الفترة 2019–2021، فى مخالفة مباشرة لمتطلبات الإفصاح الرأسمالى.
ومع التقدّم التقنى وتزايد الاعتماد على الخوارزميات والتحليل الكمى، باتت البيانات المالية وطرق نشرها مجالًا جديدًا لممارسة التأثير والتلاعب. فقد تبيّن فى أكثر من مناسبة أن توقيت نشر التوصيات والتقارير قد يكون محسوبًا بعناية لخدمة مراكز قائمة لبعض العملاء. وتُظهر دراسة لجامعة شيكاغو نُشرت عام 2022 أن توقيت تحديثات التصنيف الائتمانى يؤدى إلى تحرّكات سعرية ملحوظة خلال الدقائق الأولى، ما يتيح فرصة للمستفيدين ممن يعلمون بها مسبقًا لتحقيق أرباح فورية. هذه الظواهر ليست سوى شكل متطوّر من أشكال التلاعب بالمعلومة داخل السوق.
• • •
ما يهمنا فى مصر والمنطقة العربية هو عدم الوقوع فى فخ التسليم الأعمى بإشارات هذه المؤسسات. فرغم تبنّيها خطابًا علميا وتحليليا محكما، إلا أن مصالح عملائها من صناديق الأموال الساخنة كثيرًا ما تكون العامل الحاسم فى لهجة تقاريرهم، وتقييماتهم للعملات المحلية، وسقف التوقعات بشأن الديون السيادية أو معدلات التضخم. وهو ما يمكن أن يؤدى إلى زعزعة الثقة فى الأسواق، وزيادة كلفة التمويل، وهروب الاستثمارات، دون مبرر موضوعى حقيقى.
وقد رأينا كيف تعمّدت بعض المؤسسات تخفيض تقييم الجدارة الائتمانية أو إصدار تحذيرات بشأن السياسات النقدية فى دول نامية، ثم تبعتها عمليات بيع مكثفة للسندات أو الأسهم من قبل عملائها، الذين كانوا فى الواقع شركاء فى صياغة تلك التوصيات من وراء الستار.
لكن، رغم كل ما سبق، فإن التحذير من هذه الممارسات لا يعنى تجاهل الأهمية المؤسسية والوظيفية لتلك الجهات، فهى تظل أدوات ضرورية لتحليل المخاطر، ومقارنة الفرص، وقياس الأداء. إنما المطلوب هو التعامل معها بعين الناقد، وبمراجعة تحليلية مستقلة، مع تعزيز قدرات الدولة والمؤسسات المالية المحلية على بناء نماذج تقييم وسياسات اقتصادية تضع فى اعتبارها الانحيازات الكامنة فى النظام المالى العالمى.
الوعى لا يعنى الإنكار، وإنما هو دعوة للتوازن والانتباه، حتى لا يُختطف قرارنا الاقتصادى بتوصية مجهولة المصدر أو تقييم مشوب بالمصلحة.