نشرت مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى مقالا للكاتب أوليفر ستيونكل بتاريخ 23 يونيو عرض فيه موقف قادة أمريكا اللاتينية تجاه روسيا جراء العقوبات المفروضة عليها وتأثيرها على بلادهم... نعرض منه ما يلى:للغزو الروسى تأثير كبير على العالم الذى عانى بالفعل خلال جائحة فيروس كورونا، مما خلف وراءه زيادة هائلة فى مستويات الفقر منعكسا على مجالات أخرى مثل التعليم العام. أدى إغلاق الصين بسبب فيروس كورونا إلى تعطيل سلاسل التوريد العالمية وارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية مما دفع المستثمرين إلى مغادرة الأسواق الناشئة، بما فى ذلك تلك الموجودة فى أمريكا اللاتينية، فإن الحرب فى أوكرانيا تخاطر بأن تكون، بالنسبة للعديد من البلدان فى المنطقة، القشة التى قصمت ظهر البعير، إضافة إلى تبلور قضية عدم الاستقرار السياسى فى جميع أنحاء المنطقة. شارك جميع ما سبق فى بروز ثلاث قضايا مقلقة للمنطقة.
أولا: إن ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة له تاريخ طويل فى تأجيج السخط العام والاحتجاج السياسى فى أمريكا اللاتينية، كما أن زيادة التضخم فى جميع أنحاء القارة وضعت القادة فى مأزق. للتوضيح، زادت العديد من الحكومات الإنفاق العام أثناء الوباء مما أدى إلى حيز مالى محدود للغاية لتعزيز دعم الغذاء والطاقة، وهو احتمال مقلق فى بلدان مثل البرازيل، حاليا لا تملك أكثر من ثلث الناس ما يكفى من الطعام لتناول وجبة واحدة على الأقل يوم. من المرجح أن تساهم الحرب فى أوكرانيا فى انخفاض معدلات التأييد للحكومات فى المنطقة كان أداء اقتصادها لسنوات أسوأ من أى جزء آخر فى العالم تقريبا. مما قد يدفع الناخبين نحو المرشحين المناهضين للحكومة على سبيل المثال، فى جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية لكولومبيا، هزم اليسارى السابق غوستافو بيترو المرشح المناهض للمؤسسة رودولفو هيرنانديز، وهو رجل أعمال فاجأ المراقبين بحصوله على المركز الثانى فى الجولة الأولى من التصويت. أدرك كل من بترو وهيرنانديز أنه فى سياق المشاعر الحالية المناهضة للسلطات فى جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، كانت أفضل استراتيجية انتخابية هى الوعد بقطع كامل مع الحكومات السابقة، مما يسمح لها باستخدام رفض الناخبين الشديد للنخب السياسية لصالحهم.
ثانيا: من شبه المؤكد أن تؤدى الحرب إلى إضعاف النمو الاقتصادى فى المنطقة، مما يؤدى إلى تفاقم الاستياء. أبلغ صندوق النقد الدولى عن معدل نمو متوقع يبلغ 2.5 فى المائة، مقارنة بـ 4 إلى 5 فى المائة أو أعلى للمناطق الأخرى. قد تستفيد بعض القطاعات الاقتصادية فى أمريكا اللاتينية من ارتفاع أسعار السلع الأساسية، ولكن من المرجح أن تقابل هذه المزايا تحديات السيناريو العالمى.
على سبيل الذكر لا الحصر، كانت أسعار النفط المرتفعة نعمة لاقتصاد فنزويلا، لكن تدهور البنية التحتية للطاقة فى البلاد يعنى أن الأمر سيستغرق سنوات حتى تعود إلى مستويات التصدير التى حافظت عليها فى أوائل العقد الأول من القرن الحالى. يمكن للقوى الزراعية فى أمريكا الجنوبية من الناحية النظرية أن تعوض جزئيا النقص العالمى فى القمح، لكن العديد من العقبات تحول دون تحقيق ذلك. على سبيل المثال، تخطط البرازيل لزيادة إنتاج القمح بنسبة تصل إلى 11 فى المائة هذا العام، ومع ذلك لا يزال يتعين عليها استيراد القمح لتلبية الطلب المحلى. علاوة على ذلك، أدت الحرب إلى زيادة فى أسعار الأسمدة باهظة الثمن بالفعل، والتى، مقترنة باعتماد أمريكا اللاتينية على استيراد هذا المنتج من روسيا، قد تقلل فى الواقع من حجم المحصول المستورد للعديد من بلدان أمريكا اللاتينية.
ثالثا: أدى تدهور العلاقات بين الغرب وروسيا إلى خلق معضلة لحكومات أمريكا اللاتينية، التى سعت معظمها إلى تجنب الانحياز إلى جانب معين. أحد العناصر الرئيسية لهذا التصرف المنطقى هو الاقتصاد: فالمنطقة حريصة على حماية علاقاتها التجارية مع الغرب والصين وروسيا، وهو ما يفسر سبب انتقاد العديد من الحكومات للعقوبات الغربية ضد روسيا.
• • •
لكن مخاوف المنطقة بشأن السيناريو الجيوسياسى الجديد تنطوى أيضا على اعتبارات استراتيجية أوسع: الغالبية العظمى من قادة أمريكا اللاتينية، بغض النظر عن قناعاتهم الأيديولوجية، تبنوا بشغف العلاقات مع الصين الصاعدة وروسيا الأكثر نشاطا من الناحية الجيوسياسية، كوسيلة لزيادة الاستقلال الذاتى وتعزيز قوتهم التفاوضية مع الولايات المتحدة. على الرغم من أن معظم حكومات أمريكا اللاتينية صوتت لصالح قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التى تدين الغزو الروسى لأوكرانيا، امتنعت كل من المكسيك والبرازيل عن قرار آخر بتعليق عضوية موسكو فى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وعلى نفس المنوال، عدد قليل من قادة أمريكا اللاتينية كانوا أكثر وضوحا بشأن انتقاد الرئيس الروسى فلاديمير بوتين. على الرغم من عدم توافر بيانات استطلاعات الرأى الموثوقة، تشير الأدلة إلى أن العديد من الناخبين فى أمريكا اللاتينية يعتقدون أن الناتو مسئول عن الحرب مثل روسيا، بالإضافة إلى وسائل الإعلام الفنزويلية الحكومية الموالية لروسيا وبعض القطاعات المحايدة فى مجتمعات أمريكا اللاتينية الداعمة لهذا الرأى، فإن الرواية القائلة بأن عقوبات الغرب، وليس الغزو نفسه، هى التى تعطل الاقتصاد العالمى، هى الرواية الأكثر رسوخا ومصداقية فى أمريكا اللاتينية.
فى البرازيل، تجنب المرشحان الرئيسيان فى الانتخابات الرئاسية المقبلة فى أكتوبر القادم تصوير روسيا على أنها المعتدى الوحيد. فى مقابلة حديثة، أصر اليسارى لويس إيناسيو لولا دا سيلفا على أن الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى كان مسئولا عن الحرب مثل بوتين، واتهم زيلينسكى بالظهور كثيرا على التلفزيون بدلا من التفاوض على اتفاق سلام. من ناحية أخرى، سافر الرئيس اليمينى المتطرف جايير بولسونارو إلى موسكو قبل أيام من الغزو وقال إنه «متضامن» مع روسيا. كلتا الحلقتين أثارتا الدهشة فى الغرب، لكننا لا ينبغى أن نتفاجأ من هذا الموقف، حيث اتبع الرؤساء السابقون مسارات مماثلة. فصفحات التاريخ مليئة بالمواقف المماثلة لما يحدث الآن، بعد الغزو الروسى لشبه جزيرة القرم عام 2014، انتقدت البرازيل المحاولات الغربية لتعليق انضمام روسيا إلى مجموعة العشرين، وكانت صريحة بشأن التأثير السلبى للعقوبات ضد موسكو على الدول النامية. قد يعقد هذا الواقع العلاقات بين أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وأوروبا، خاصة إذا كانت الولايات المتحدة ستتبنى عقوبات ثانوية تؤثر على الشركات التى تواصل التعامل مع روسيا.
• • •
بالنسبة لصناع السياسة الغربيين، يتبلور تحديان ملموسان لهذه السياسات جراء هذا الوضع. أولا، يجب أن تبذل الولايات المتحدة الجهود لتخفيف تأثير العقوبات الغربية ضد روسيا فى العالم النامى. خلاف ذلك، فإن الادعاءات الروسية بأن العقوبات هى الجانى الرئيسى للأزمات القادمة فى العالم النامى ستقع على أرض خصبة محققة صدى. ثانيا، لا ينبغى لعودة سياسات القوة العظمى أن تدفع صناع السياسة فى واشنطن إلى السماح للمصالح قصيرة المدى بتقويض أهداف تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان. حيث تم تفسير توقيت القرار المفاجئ للحكومة الأمريكية بإرسال مسئولين رفيعى المستوى للقاء الرئيس الفنزويلى نيكولاس مادورو ورفع بعض العقوبات المفروضة على البلاد إلى حد كبير، فى أمريكا اللاتينية، على أنه دبلوماسية المعاملات. دفع هذا البعض إلى القول بأن الترويج للديمقراطية مهم فى واشنطن فقط طالما أنه لا يتعارض مع الأهداف الأمنية والاقتصادية. فى حين أن التقارب بين الولايات المتحدة وفنزويلا قد يكون تطورا مرحبا به، إلا أن إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن يجب أن تؤكد أن هذا التقارب جهد إقليمى طويل الأجل، وليس أمرا شاذا لإيجاد مصادر بديلة للنفط الآن بعد الحظر الأمريكى المفروض على الولايات المتحدة.
فى هذا السياق، يبدو أن هناك أمرا واحدا مؤكدا: من المرجح أن يؤدى التقلب الناجم عن الحرب فى أوكرانيا إلى تعقيد الجهود فى أمريكا اللاتينية للتغلب على فصل ملىء بالتحديات بشكل استثنائى فى تاريخها الحديث، والذى شكله جائحة مدمرة، وارتفاع مستويات الفقر، وصعود الشعبوية، واستمرار تآكل الديمقراطية فى جميع أنحاء المنطقة.
ترجمة وتحرير: وفاء هانى عمرالنص الاصلي