الحرب الإسرائيلية الإيرانية لم تكن صراعا قائما بذاته بين دولتين وحسب، بل تجاوزت ذلك إلى كونها إحدى المراحل التنفيذية للاستراتيجية الأمريكية فى الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وهى مراحل تتوالى وتتابع منذ أكثر من ثمانين عاما لخدمة مصالح الولايات المتحدة وفى مقدمتها إسرائيل وهدف الحفاظ عليها ككيان وظيفى، أو استخدامها كأداة للبطش بدول المنطقة وتدمير مقدراتها واستنزافها.
الولايات المتحدة وحلفاؤها الذين تبنوا الكيان الصهيونى بعد نشأته سفاحا على أيدى بريطانيا عام 1948 حرصوا على الدوام على أن تكون إسرائيل هى مركز القوة الرئيسى فى المنطقة متفوقة على من حولها من الدول فرادى أو مجتمعين، وبدعم اقتصادى وتكنولوجى وإمدادات كبرى لا تنقطع من أحدث الأسلحة فى الترسانات الغربية، فضلًا عن المساعدات الاستخبارية والمعلوماتية، بحيث صار الأمر وكأن إسرائيل هى إحدى الولايات الأمريكية، وأن إسرائيل هى أمريكا وأمريكا هى إسرائيل.
• • •
الدعاية الأمريكية والغربية وقبلها الدعاية الإسرائيلية التى دأبت لسنين طويلة على زرع كذبة تاريخية فى عقول الشعوب العربية والإسلامية، بأن تلك الدولة الصغيرة إسرائيل قد استطاعت بمفردها هزيمة الجيوش العربية فى كل الحروب التى خاضتها ضدها، ليست سوى دعاية مسمومة هدفها ترسيخ قوة إسرائيل فى الأذهان، رغم أن الحقيقة تكمن فى أن ترسانات السلاح الأمريكى والغربى هى التى مكنت إسرائيل من تحقيق ذلك، وأن مصر والدول العربية كانت فى الحقيقة وطوال تلك الفترة تحارب العالم الغربى بأكمله.
اليوم يمكن أن نستحضر القول الشهير لصامويل كولت مخترع المسدس الحديث، عندما وصف نتيجة اختراعه بقوله «الآن يتساوى الجبان مع الشجاع» وهو وصف ينطبق تماما على إسرائيل المدججة بأحدث الأسلحة الأمريكية والغربية المدمرة، لتمارس عربدة القوة الغاشمة فى منطقتنا العربية وبلادنا.
هذه هى حقيقة إسرائيل التى تواصل حربها العدوانية الإجرامية منذ 21 شهرا ضد الفلسطينيين فى قطاع غزة، وضد حزب الله فى لبنان، وضد الدولة السورية، وضد اليمن، وضد إيران، وهى حقيقة تؤكد ماهية الترسانة الحربية الإسرائيلية الهائلة والمخزونات الكبرى من السلاح والعتاد والذخائر الحديثة، والطائرات المقاتلة والقاذفة من أحدث الأنواع بتسليحها بكل أنواع الصواريخ وأحدثها، التى أتاحت لإسرائيل تحقيق كل ذلك.
الكيان الصهيونى لديه صناعات حربية متقدمة ترتكز على التعاون التكنولوجى الوثيق مع الصناعات العسكرية الغربية، لكن الحقيقة أن حجم وكمية ونوعية السلاح الذى يحارب به ذلك الكيان يتجاوز إمكانات إسرائيل بأضعاف مضاعفة، لأن مصدره هو الولايات المتحدة والدول الغربية التى تعتبر أن أمن الكيان الصهيونى هو جزء من أمنها، وأن لإسرائيل الحق فى اتخاذ ما يلزم للدفاع عن نفسها، وأن ما تقوم به إسرائيل إنما يصب لصالح الغرب، وليس أدل على ذلك من قول المستشار الألمانى بأن إسرائيل تقوم فى النهاية بالمهام القذرة نيابة عنهم.
• • •
فى خضم الحرب العدوانية الإسرائيلية على إيران، شاركت الولايات المتحدة وأسهمت فى جميع مراحل التخطيط والإعداد للحرب وتدبير كل احتياجات إسرائيل من الطائرات والصواريخ والأسلحة والطائرات المقاتلة والقاذفة والداعمة وطائرات الإنذار المبكر وطائرات التزويد بالوقود والصواريخ والذخائر والإمداد بالمعلومات الاستخبارية، والمشاركة فى خطط التمويه والخداع وكان الرئيس ترامب بنفسه مشاركا فى جزء منها.
لكن تقديرات المخططات الأمريكية والإسرائيلية لم تتحقق، ولم تنهار إيران تحت وطأة الضربة الإسرائيلية المركزة، ولم تتفكك الدولة الإيرانية من الداخل بواسطة المعارضين والأقليات والعملاء، وحتى نتنياهو الذى وجه خطابه للإيرانيين بأن إسرائيل لا تستهدفهم بل تستهدف النظام الإيرانى وقياداته ومنشآته النووية، وحرضهم بمنتهى البجاحة والوقاحة على الإطاحة بنظام الحكم وتغييره، لم يلق خطابه من الإيرانيين سوى الاحتقار والاستنكار.
وتمثلت المفاجأة الصادمة فى تلك الحرب كانت فى تمكن إيران من استيعاب الضربة الإسرائيلية وتحول إيران للهجوم المضاد باستخدام المسيرات والصواريخ الإيرانية التى أصابت معظم أهدافها وألحقت خسائر غير مسبوقة فى إسرائيل.
انتقال الولايات المتحدة إلى المرحلة الثانية من الحرب بتحريك حاملتى الطائرات نيميتز، وجيرالد فورد، للانضمام إلى حاملة الطائرات كارل فينسون والمدمرات العاملة معها فى الشرق الأوسط، للدفاع عن إسرائيل والتمهيد لضرب إيران مثل بداية الانخراط الأمريكى فى الحرب، واتجاه الأحداث إلى ذروتها مع قيام أسراب القاذفات الاستراتيجية الأمريكية بى - 2 سبيريت، بقصف المنشآت النووية الإيرانية فى نطنز وأصفهان وفوردو بالقنابل الثقيلة من طراز جى بى يو-57 إيه/ بى الخارقة للتحصينات.
ذلك الوضع الخطير فى الشرق الأوسط الذى بدأته إسرائيل وأكملته الولايات المتحدة، لا يعد فقط إعمال لشريعة الغاب فى العلاقات الدولية، بل هو إرساء لنمط من علاقات البطش والبلطجة الدولية التى تنتهجها الولايات المتحدة وتابعتها إسرائيل، التى قصفت من قبل مفاعل أوزيراك فى العراق، ومفاعل دير الزور فى سوريا، بينما إسرائيل نفسها ترفض التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية منذ عام 1968 ولديها برنامج نووى حربى سرى، وسط تقديرات عن امتلاكها لعدد قد يصل إلى 200 قنبلة نووية.
• • •
حسابات النصر والهزيمة لتلك الحرب باتت أكثر صعوبة وتعقيدا، فالولايات المتحدة التى أعلنت أنها قد دمرت البرنامج النووى الإيرانى، وأعادته سنوات طويلة إلى الوراء، وأنها بذلك قد حققت نصرا استراتيجيا كبيرا، دعت على لسان الرئيس ترامب لإيقاف الأعمال الحربية، لكن يبدو أن ذلك لم يكن كافيا من وجهة نظر إسرائيل، التى أوعزت إلى اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة ووسائل الإعلام بتسريب تقارير بأن الضربات الأمريكية لم تلحق الكثير من الضرر بالبرنامج النووى الإيرانى.
المحللون الإسرائيليون الذين تبين لهم أن إيران خرجت من هذه المواجهة خروجا لائقا رغم خسائرها الكبيرة، باتوا يعتقدون فى أهمية الضغط المستمر نحو دفع الإدارة الأمريكية لمواصلة ضرباتها للمواقع الإيرانية، ولو فى مرحلة لاحقة، رغبة منهم فى مواصلة إنهاك القدرات الإيرانية واستنزافها، وإبقاء حالة الحرب والضغط الأمريكى على إيران مستمرا.
إيران التى أعلنت أنها انتصرت وأنها ستقيم احتفالات النصر، أدلى مسئولوها بتصريحات تفيد بأن البرنامج النووى الإيرانى لم يتضرر، أعطوا الفرصة لإسرائيل واللوبى الصهيونى بمؤسساته لمواصلة التحريض على إيران، بل وسببوا كثيرًا من الحرج للإدارة الأمريكية التى أعلنت أنها حققت أهدافها.
أما إسرائيل، فيبدو أنها لا ولن تكتفى، وبرغم ما لحق منشآتها من دمار كبير، إلا أن غطرسة القوة تجعلها تعلن أنها تستعد للجولة القادمة من الحرب، التى تعتبرها لم تنتهِ بعد، ولكل تقديراته وحساباته.