نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا لـ«فوزى بوخريص» المتخصص بعلم الاجتماع حول المنظمات غير الحكومية وأبرز المسائل التى ترتبط بها، كالذى يثار حول تعريفها ونشأتها والقضايا التى تعالجها والمبادئ التى تقوم عليها.
يستهل «بوخريص» القول بأنه يمكن اعتبار «المنظمة غير الحكومية» بمثابة الاسم الآخر للجمعية الأهلية، التى هى بالتعريف منظمة غير حكومية. ويمثل تعبير «منظمات غير حكومية» تعريفا بالسلب لهذه التنظيمات، حيث تتحدد بالقياس إلى الحكومة وفى العلاقة معها. وعلى العموم فإن تكون هذه التنظيمات غير حكومية معناه بالنسبة إلى الباحث فليكس دميت، أنها تقوم بما لا يمكن للحكومة القيام به أو بما لا تريد القيام به.
فى السياق ذاته يطرح تحديد فليكس دميت للتنظيمات غير الحكومية مشكلة التعريف الذاتى بها؛ فهو يطرح مشكلة تحديد مجال تدخلها: ما هو العمل الذى تقوم به؟ وما هو العمل الذى لا تقوم به؟ ومتى تقوم بما تقوم به؟ وإلى أى حد تقوم بذلك؟..إلخ. ولعل الخطر الذى يهدد الوضع الوجودى لهذه التنظيمات، يكمن فى إمكانية الدفع بهذا إلى أبعد من مجال تدخلها الفعلى، وتحميلها أكثر مما تحتمل. فمثلما يمكن للمنظمات غير الحكومية أن تحافظ على استقلاليتها وهويتها كفضاء مدنى، يمكنها أن تتحول إلى تنظيمات تابعة، أو إلى «منظمات حكومية للغاية».
***
وقد استعمل لفظ المنظمات غير الحكومية فى البداية للدلالة على المنظمات الدولية، (مثل الصليب الأحمر الدولى، «إنقاذ الطفولة»، «منظمة العفو الدولية»، «أوكسفام»، «هيومن رايت ووتش»..إلخ). وهى منظمات لها هيكلة دولية واسعة، لكن تمويلها مستقل، ويتمثل هدفها فى مساعدة بلدان الجنوب وضحايا الكوارث والصراعات. وقد ظهرت هذه المنظمات فى المشهد السياسى الدولى فى القرن 19، بعد وضع الاتفاقية الدولية لمناهضة العبودية سنة 1840.
وتعالج المنظمات غير الحكومية اليوم عددا من المشكلات والأسباب، فى شتى المجالات. وقد بلغ عدد هذه المنظمات فى التسعينيات نحو 2000 منظمة، بينما كان عددها 200 منظمة فقط بداية القرن العشرين. وقد أسهمت المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى فى تطوير عمل هذه المنظمات، حيث تم الاعتراف بها كطرف أساسى فى العلاقات الدولية وكفاعل محورى ومؤثر فى السياسة على المستويات الوطنية والدولية، وذلك على الرغم من الانتقادات التى توجه لها أحيانا على مستوى برامجها، أو على مستوى تمويلها.
أما فى المجتمعات العربية، فلم يستعمل مفهوم «المنظمات غير الحكومية» إلا فى العقود الأخيرة، وهو يحيل على معجم دولى، ولو أن العديد من الجمعيات العربية تقدم ذاتها كمنظمات غير حكومية، حتى وإن كان هذا التعريف غير موجود فى القانون المحلى.
وبدورها ترى الباحثة ميشيل كاسريل أن مفهوم المنظمة غير الحكومية بدأ يطلق كذلك على الجمعيات التنموية التى تتدخل فى العالم القروى أو الحضرى، وذات المشروعات المتعددة التى تتنوع أنشطتها ومجالات تدخلها، بحيث تقتضى تدخل ممولين مختلفين: وطنيين ودوليين.
***
يشير الكاتب إلى أن ثمة باحثين يعتبرون أن المنظمات غير الحكومية، التى هى شكل متطور من التنظيم الجمعوى هى أيضا ذات تاريخ عريق، فكما يقول الباحث هنرى رويى دورفوى «من الخطأ الاعتقاد أن المنظمات غير الحكومية هى أشكال تنظيم حديثة، فبعضها موجود منذ القرن التاسع عشر، بل وقبل ذلك بكثير». ويماثل الباحث ميشيل دوسان بين كل منظمة من المنظمات غير الحكومية الراهنة وأخرى قديمة، فعلى سبيل المثال، تندرج الجمعيات الإنسانية المتخصصة فى تقديم الإسعافات والمساعدات الإنسانية العاجلة، التى أسسها الأطباء الفرنسيون، فى بداية السبعينيات من القرن الفائت، ضمن تقليد الجماعات أو الزوايا الخيرية التى سادت عبر القرون، كما أن الفعل الإحسانى الحديث ولد من فظاعات حرب الاستقلال فى اليونان (1853ــ1856). لكن رائد العمل الإنسانى الحديث هو هنرى دينان، الذى هلع للمجزرة التى حدثت فى معركة سولفيرينو ــ التى خلفت 40 ألف قتيل عام 1859، فأنشأ تنظيما إحسانيا خاصا واتخذ كشعار له الصليب الأحمر، فقامت منظمة الصليب الأحمر، التى تأسست عام 1863 بمبادرة من 16 حكومة و14 منظمة خاصة. فيما أدت الحرب الأهلية الروسية إلى إنشاء منظمة «إنقاذ الطفولة».
ويقترح ميشيل دوسان تسلسلات تاريخية أخرى، منها تسلسل يربط فلاسفة عصر الأنوار بالمنظمات غير الحكومية الحديثة المدافعة عن حقوق الإنسان، مثل رابطة حقوق الإنسان التى نشأت سنة 1898، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان التى تأسست سنة 1922، وأخيرا المنظمات غير الحكومية النشيطة، مثل منظمة العفو الدولية التى تأسست عام 1961، أو هيومن رايتس ووتش التى تعود فى نشأتها إلى سنة 1988. كما أن المنظمات غير الحكومية المسماة تنموية، هى أيضا وريثة الحركات الاجتماعية أو الدينية التى ركزت على نقد الفعل الاستعمارى، وقامت بدعم حركات التحرير ضده، وبأشكال مختلفة. كما قامت بدعم الخطوات الأولى لبلدان العالم الثالث الحديثة العهد بالاستقلال. وربما الاستثناء الوحيد، مقارنة بكل ما تم ذكره، هو المنظمات غير الحكومية التى تهتم بالبيئة العالمية، والتى تعبر عن الوعى العالمى الجديد، والمتأخر نسبيا، بتحديات البيئة. فقد دفعت هذه المنظمات الحكومات إلى تنظيم مؤتمرات خاصة بالبيئة فى ستوكهولم (1972)، وريو(1992)، وجوهانسبورج (2002)، وباريس (2015)، وإلى توقيع اتفاقيات دولية لحماية البيئة والمحافظة عليها.
وتتأسس رؤية المنظمات غير الحكومية على ثلاثة مبادئ أساسية تتمثل فى الديمقراطية، التنمية المستدامة، والتضامن، باعتبارها مبادئ كونية، وإن كانت كل فئة من هذه المنظمات غير الحكومية تعمل فى مجالها الخاص. ويتم التمييز عادة بين أربعة مجالات أساسية لتدخلها، هى: احترام حقوق الإنسان، الفعل الإنسانى العاجل، ودعم التنمية، والنضال من أجل المحافظة على البيئة.
***
يختتم الكاتب بإقرار العديد من الملاحظين بأن هناك اليوم لجوءا متزايدا إلى المنظمات غير الحكومية، وبأن ثمة ميلا مطردا إلى اعتبار «المجتمع المدنى» الدولى ممثلا فى هذه المنظمات غير الحكومية، وذلك كأداة لحل المشكلات التى يعانى منها العالم. فالمجتمع المدنى الدولى، كما يقول جون فرانسوا بايار هو بمثابة هندسة شمولية جماعية للعلاقات الدولية، تتيح للفاعلين الدوليين الإسهام فى توليد عولمة متوافق حولها. ويظهر ذلك من خلال تزايد عدد المنظمات غير الحكومية المعتمدة من قبل الأمم المتحدة، ومن خلال التوجه الأكبر إلى فرض مشاركة المنظمات غير الحكومية فى كل سياسة فى مجال التنمية. جدير بالذكر أن المنظمات غير الحكومية تتعرض بدورها لهجوم كاسح من التيارات السياسية فى العالم الثالث. وفى هذا الإطار يقول هانز درش: «قد يصح اتهامها بالسياسة والتسييس ولكن خير المنظمات الحكومية أقوى من شرها».
النص الأصلى: