ــ 1 ــ
توفى المبدع الكبير بهاء طاهر (1935ــ2022) الخميس الماضى، ولم يكن بعيدًا عن التوقع أبدًا تلك المظاهرة العارمة فى الواقع، وفى الواقع الافتراضى على السواء، فى توديع الرجل والإعلان الجارف عن محبته، وتبارى المئات فى مصر وخارجها، فى سرد واسترجاع أجمل الذكريات التى جمعتهم بالراحل الكريم، وكلها تقريبا تصب فى خانة الإجماع على ارتقاء الرجل مكانة إبداعية عالية ورفيعة المقام تتعلق بأعماله وحدها فقط ولا شىء سواها، كما تجمع أيضا على سيرة بهاء طاهر الوديعة المسالمة المتواضعة الدمثة التى كانت نموذجا حيا للمحبة والسلم والوداعة فى أجلى صورها.
ولم يكد يمر سوى يوم واحد على رحيله وفى وسط هذه المظاهر الإنسانية الحفية بتجربة بهاء طاهر الإبداعية والإنسانية، حتى خرج صوت ناعق على السوشيال ميديا بألفاظ جارحة تطفح بالكراهية والغل والحقد الأسود تطعن فى بهاء طاهر وفى شخصه وإبداعه على السواء، وتتهمه بما ليس فيه وبما لم يصدر عنه، والمئات بل عشرات المئات ممن عاصروا بهاء طاهر واقتربوا منه شاهدون على نزاهته وحضوره الصافى ووداعته التى لم يختلف عليها أحد، كأنه نسخة عصرية رهيفة من القدير يحيى حقى.
ــ 2 ــ
وبدون أى داعٍ اندلعت معركة سخيفة، تخلو من أى لياقة أو ذوق وارتقاء إنسانى كان طرفها الأول؛ الطرف المسيء وغير المبالى بأى مشاعر أو طرق مهذبة للتعبير عن رأى أو توجيه نقد له حيثياته أو الإعلان عن وجهة نظر حتى لو كانت مغايرة لتيار يُجمع على عكس ذلك على طول الخط.
وكان من الغريب جدًّا واللافت بالنسبة لى، هو تصدى بعض أصواتٍ من المفترض أنها محسوبة على تيارٍ مثقف إنسانى يدعو إلى الرأى والرأى الآخر بالحسنى وفى حدود اللياقة والدماثة واحترام مشاعر الآخرين، إلى الدفاع عن صاحبة هذه الأقوال الجارحة المسيئة بتلك الطريقة الفجة التى تتناقض تمامًا مع أى ادعاء بالأدب والرقى، فضلًا على الاشتغال بالنشاط المعرفى والثقافى (وأنا ممن يؤمنون بأن أى ثقافة أو معرفة لا ترتقى بإنسانية صاحبها، ولا تمنحه سلوكًا راقيا مهذبا ولائقًا فى التعبير عن وجهة نظره، فليس له لا من الثقافة ولا المعرفة نصيب!).
وتعجبت جدا واندهشت ــ مثل عشرات المئات (ولن أقول الآلاف أو أكثر) ــ ممن استهجنوا هذه الطريقة وهذا الأسلوب أولا، ثم فى الدفاع المستميت عن حق التعبير عن مثل هذا الرأى/ الإساءة، والنقد، ومثل هذه الأمور بدعوى أن هذا من حق الكاتبة ومن حقها أن تنقد بهاء طاهر حتى لو لم يمض على رحيله سوى ساعات، وهى التى لم تنقده حيا فى أى مقال أو منشور معلن لها؟!
ــ 3 ــ
وحقيقة لا أعرف بالضبط أين هذا «النقد» وهذا «الرأى» وأين «وجهة النظر» التى تحملها عبارات من قبيل: «كابوس ثقافى» أو «من كوابيس جيلى الثقافى»! أو «استحل لنفسه جوائز معتصبة»؟! أو «اغتصب» هكذا!
هل هذا نقد؟! هل هذه وجهة نظر؟! هل هذا رأى يُناقش من الأساس؟! هل من المقبول رمى الناس بالباطل واتهامهم زورا وبهتانا بوقائع مختلقة وكاذبة ولا أساس لها من الصحة؟! ثم يأتى من يدافعون عن قائل مثل هذه العبارات الجارحة بدعوى أن هذا نقد؟!
لا والله ما هو بنقد ولا رأى، ورحم الله الناقد الكبير رجاء النقاش حينما كتب ذات مرة «النقد لا يقتل ولا يسىء ولا يجرح ولا يهين.. إنما النقد رأى وإضاءة ووجهة نظر موضوعية، تقوم على التحليل والتفسير والمقارنة قبل إطلاق الأحكام».
يعنى مثل هذه المفردات التى جاءت فى سطرين مفعمين بكل هذا الحقد وهذا الغل المقيت، وافتقاد اللياقة والذوق وانعدام تغليب خيرية الفطرة الإنسانية، مفترض أننا نتعامل معها على أنها «نقد» و«تقييم وتقويم» لتجربة بهاء طاهر الإبداعية التى امتدت لما يقرب من نصف القرن؟! وبغض النظر عن أى اعتبار لتوقيت الكتابة والإعلان عن هذه الكراهية واستفزاز مشاعر الناس وعدم مراعاة مشاعر ابنتى الرجل وأسرته الصغيرة والكبيرة على السواء؟!
الحقيقة لقد ساءنى جدا ما حاول البعض أن يدافع به عمن يطلق مثل هذه الإساءات الجارحة على الأحياء والأموات، وهى التى لم تترك أحدا من أبناء هذا الجيل أو بعده أو قبله من دون أن تنعته بلفظ جارح أو تبدأ حديثها عنه بكلمة صارت من لوازم قاموسها المزمن «أكره»!
أعيب على الذين يزيفون الأمور ويتعاملون بمنطق مزدوج، وقياس خاطئ، ثم يعيبون على غيرهم، ويتهمون الناس بالجهل، ويدعون دفاعًا غير شريف ولا نزيه عن حرية الرأى والرأى الآخر، وهذه المظلات واللافتات الفضفاضة التى تتسع للشيء ونقيضه، والفكرة وعكسها!
ــ 4 ــ
أما هؤلاء أبناء ما أسميه بقاع «الجيل الأسود»، هؤلاء الذى سجنوا أنفسهم وسجنوا غيرهم فى سجون الأيديولوجيا وإكراهاتها وأوهامها، والولع بتصنيف الآخرين وتنميطهم، ويتخذونها معيارا للحكم على أى شيء، وأى شخص، وكأنهم الوجه الآخر من العملة لأصحاب الحقيقة المطلقة وملاكها الذين يحجزون الفدادين فى جنات النعيم!
هناك من أبناء هذا الجيل من دمرته مآسى وأحزان الوطن فى أزمان الحلم والكسرة، شوهته وجعلته متوجسا مرتابا، كبر وكبرت معه تشوهاته وأزماته بات من المستحيل أن يرى العالم بغير حدقتين تبحثان عن المؤامرة، وتتتبعان خيوط الدسيسة، وتنقلبان من الرضا إلى الثورة، ومن الحب إلى البغض فى طرفة عين! لم ينجح أحد! ولم ينج أحد.. صحيح كان هناك استثناءات محدودة، وتكاد لا تجاوز أصابع اليد الواحدة، لكنها الاستثناءات التى تؤكد القاعدة ولا تنفيها!
لا أحد يتزحزح بسهولة عمَّا تشربه وتشبع به وأفاد منه بصورة أو أخرى وبكل طريقة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد!
(وللحديث بقية..)