أَحْسَنَ صُنْعا «مركز الجامعة العربية بتونس» حينما اتفق مع «مكتبة الإسكندرية» على تنظيم هذا الملتقى العلمى المهم حول: «العلاقات بين المشرق والمغرب العربيين: رؤى فى إعادة كتابة التاريخ»؛ يومى 24 و25 سبتمبر المنقضى، والذى حضره لفيف من أهل الاختصاص، ثُلّةٌ من المؤرخين وبضعةٌ من الاقتصاديين، يحيط بهم جمْعٌ من الإعلاميين ومن طلبة «العلوم السياسية».
وفى جلسة «الاقتصاد» أخذنا أماكننا، أربعة من مصر ومن العراق والمغرب وعُمَان، وماذا عسانا نقول؟
وقلّبتُ أمرى لا أرى لى راحةً، فيما قاله «أبو فراس» شعرا تغنت به «كوكب الشرق»؛ ووجدتنى أمام أفكار قليلة كنت أعددتها، أبسُطُها ها هنا أمام القارئ الكريم.
الفكرة الأولى أن ما قد يبدو الآن من تباعد نسبى ظاهر بين المشرق والمغرب العربيين، وبين كل دولة عربية والأخرى، سواء فى المجال الثقافى أم فى الاقتصادى، هو أمر طارئ تاريخيا إلى حد بعيد.
فى العصر القديم، توفرت فى المنطقة المعتبرة عربية الآن، وشائج عديدة ذات قوة نسبية تربط بين الساكنة فيها، فى إطار «الوطن العربى» الحالى، فى حقب ما يمكن تسميته «قبل الإسلام»، تجاريا ولغويا ــ ثقافيا، وحربيا أيضا. بعد «الفتوح»، وخلال العصر الوسيط العربى ــ الإسلامى، فإن الرقعة االشاسعة لما يطلق عليه الآن «الوطن العربى»، كما أشرنا، غدت تمثل ما يمكن اعتباره منطقة حضارية مشتركة، انصهرت فيها مكوناتها البشرية والحضارية السابقة دون أن تفقد مميزاتها فى إطار «الكل» الجديد. كانت معالم الإبداع الحضارى شاملة للمجالين «المادى»
و«اللامادى». فى المجال المادى نشأت «حياة اقتصادية مشتركة» – وفق مقاييس العصر السالف ــ على أساس المبادلات التجارية المختلطة، من ناحية أولى، وعلى أساس أداء دور الوسيط التجارى العالمى بين «آسيا البعيدة» وإفريقيا حتى الساحل المتوسطى فى الجنوب والشمال.
ولكن مع مجىء الاستعمار الأوروبى الحديث (خاصة البريطانى والفرنسى) خلال القرن التاسع عشر وما بعده، جرت تجزئة المنطقة العربية ــ الإسلامية وإلحاق كل جزء أو بلد بالمركز الاستعمارى (المتروبول) عبر روابط التبعية الاقتصادية المباشرة، انطلاقا من علاقة التخصص الإنتاجى (حالة مصر كمزرعة للقطن وتصديره إلى بريطانيا، وحالة الجزائر كمزرعة للكروم لفرنسا). ولم يتغير الوضع كثيرا بعد معارك التحرر واستقلال البلدان العربية عن الدول الاستعمارية.
***
وبرغم نجاحات الأنظمة «الوطنية» العربية ذات النَّفَس القومى العميق خلال الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم فى تأسيس قواعد تنموية متحررة، فقد بقيت التجزئة والتبعية بشكل أساسى بعد ذلك، على مستوى ما يسمى بالدول القطرية أو (الوطنية)؛ فماذا عن الحاضر؟.
هنا تأتى الفكرة الثانية، وخلاصتها أنه على امتداد مسيرة العمل الاقتصادى العربى المشترك، عقب إقامة «جامعة الدول العربية» عام 1945 ولمدة نحو ثلاثة أرباع القرن حتى الآن، بقيت الآفات الرئيسية المسببة لجمود هذا العمل على حالها تقريبا. ومن ثم لم تزد نسبة التجارة المتبادلة بين الدول العربية وبعضها البعض عن حوالى 10% من إجمالى التجارة الخارجية العربية، رغم كثرة وتنوع الاتفاقات المعقودة فى جميع المجالات، من ثنائية أو متعددة الأطراف.
وتجدر الاشارة إلى أنه حتى نسبة الـ 10% تقريبا، الخاصة بالتجارة العربية «البينية»، لم تقمْ على حسابات اقتصادية تنموية من جانب الدول العربية المعنية فى الأغلب، وإنما تقوم على حسابات سياسية ظرفية.. ونقصد أن إجراء المعاملات من جانب دولة معينة مع الدولة أو الدول الأخرى – العربية، ومعدل نمو هذه المعاملات، ومستواها، وتركيبتها، تتوقف على مدى توفر «الرغبة» السياسية والثقة فى تحقق منفعة جارية من وراء ذلك.
إن ذلك يعنى أن «تبادل المنافع السياسية» للدول القائمة كان يسبق فى الأولوية دائما «المصالح التنموية المشتركة» والتى هى أوسع وأعمق من مجرد «تبادل المصالح الاقتصادية». أو أن الاعتبار السياسى، فيما يتعلق بحل مشكلات طارئة فى هذا البلد أو ذاك Problem ــ Solving، يسبق الاعتبار التنموى الشامل طويل الأجل. بعبارة أخرى، إن حرص كل دولة عربية على (الوضع القائم) Status Quo وخاصة من الوجهة السياسية، كان أهمّ لديها من إحداث تغيير تنموى شامل.
وفى النهاية، إن الأمر كله تقريبا لم يخرج عن مجال التجارة، وهذا ما يسمّى بالمدخل التجارى للتكامل الاقتصادى. وقد تحاشـت الدول العربية قدر المستطاع (انزلاق) عملية التكامل إلى الساحة (الخطرة) للتنمية، لأن هذه الساحة تحتمل إقامة صيغة مختلفة
لـ(تقسيم العمل الانتاجى) أى «توزيع الأدوار» فى التخصص السلعى والخدمى بين الدول العربية وفقا لقاعدة المزايا الديناميكية، النسبية والتنافسية، مقابل الحد من العلاقات الكثيفة القائمة بالفعل حاليا بين كل دولة عربية على حدة وبين الدول الأجنبية، بما فيها الدول الاستعمارية القديمة.
وهكذا فإن تجربة العمل الاقتصادى العربى المشترك تشير إلى أن العلاقات الاقتصادية العربية المتبادلة يحكمها فى المقام الأول العامل السياسى الظرفى، ليس فقط فيما يخص العلاقات الثنائية بين الدول العربية، ولكن أيضا فيما يخص التجمعات العربية الفرعية التى نشأت خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
فيما يخص العلاقات الثنائية وجدنا أمثلة واضحة من العلاقات المتقلّبة بين طرفى كل (ثنائى) على حدة، حيث تزدهر «التجارة» إذا ظهر «الضوء الأخضر» من «السياسة»، والعكس صحيح. ولننظر هنا على سبيل المثال إلى ثنائيات: مصر/السودان، سوريا/لبنان، مصر/ليبيا، الجزائر/المغرب، العراق/الكويت، السعودية/ قطر... وهلمّ جرّا. أما على مستوى التجمعات الفرعية فإن العامل السياسى كان السبب الكامن وراء قيام واندثار، أو تمزّق أو تجمّد تجمعات مثل «مجلس التعاون العربى» الذى قام بين مصر واليمن والأردن والعراق فى 16 فبراير 1989 ليستمر حتى الاجتياح العراقى للكويت فى مطلع أغسطس 1990 وتم حله رسميا فى الأول من أغسطس 1992، وكذلك «اتحاد المغرب العربى» الذى أعلن قيامه فى 19 فبراير 1989 وما زال هيكله المؤسسى قائما حتى الآن دون حراك، بل و«مجلس التعاون الخليجى» الذى هو أقدم التجمعات العربية الفرعية (25 مايو 1981) وأكثرها صمودا حتى الآن، برغم بعض بوادر التصدعات التى قد تهدده الآن على وقع الخلاف بين بعض أعضائه.
وهكذا صار الاقتصاد العربى ضحية «السياسة العربية» على مستواها الضيق من حيث بؤرة الاهتمام «السلطوى» – إن صح التعبير ــ للحكومات المعنية، وهو «الظرفى» من حيث المدى الزمنى المتغير من فترة إلى الأخرى.
***
وتأتى الفكرة الثالثة التى وضعناها على المحكّ، لنقول إنه لمن الصعوبة بمكان، بل هو من غير الممكن، أن نحقق القفزة المرجوّة لإقامة جماعة عربية تنموية وتكاملية حقا فى الإطار الإقليمى والعالمى الراهن والمستقبلى، إلا من خلال قلْب المعادلة، عن طريق تحويل السياسة من عامل مُعيق إلى عامل مساعد أو مستجيب. يتحقق ذلك بتوفر الإرادة السياسية التوحيدية لدى النخب العربية، ابتداء من النخب الشابة، ثم ترجمة هذه الإرادة إلى عمل مؤسسى فاعل، ولهذا بالذات حديث آخر.
والمقصود وضع إطار تشريعى وتنظيمى مؤسَّس بقوة وتصميم، لتفعيل العلاقات الاقتصادية العربية، على المستويين الثنائى والجماعى، خاصة الجماعى، سعيا إلى تعزيز التجارة المدفوعة بعملية خلق أو إنشاء المزايا النسبية والتنافسية الديناميكية للأقطار العربية، والتى تلغى أثر «التنافس» بين الاقتصادات العربية الحالية، وتعزز علاقات «التكامل» عبر الزمن، من خلال آليات مناسبة للدعم والتعويض للأطراف المنخرطة فى العلاقات التكاملية المستحدثة. وبذلك يمكن معالجة أثر المصالح القائمة لبعض الجماعات المحلية والتى يمكن أن تقاوم العلاقات العربية المتبادلة الناشئة، لحساب علاقاتها الاقتصادية المترسخة مع الأطراف الأجنبية، عبر الزمن، من خلال أنشطة الاستيراد والتصدير والوكالة والسمسرة وغيرها.
ومن خلال هذه «التجارة المدفوعة بالتنمية المتكاملة»، عبر العمليات الإنتاجية المخططة بعناية من قِبل الجهاز المسئول، يمكن الانتقال بالقطاعين العام والخاص، والمشروعات العربية المشتركة، إلى مراحل متقدمة فى العمل الاقتصادى المشترك، والمزج فيما بينها بحصافة فى نفس الوقت: الاتحاد الجمركى، والسوق المشتركة لعوامل الإنتاج، وتنسيق ثم توحيد أُطُر السياسات الاقتصادية المختلفة، بما فيها المالية والنقدية وقضايا العملة، والسياسات الاجتماعية. ومن يدرى؟ فقد يمكن فى المستقبل إقامة «سوق واحدة» حقا، مصحوبة بسياسة خارجية مشتركة بين الأجزاء العربية، وسياسة دفاعية مشتركة أيضا.!
وهذا هو الطريق إلى التطوير الانقاذى الحقيقى لـ«منطقة التجارة العربية الكبرى» القائمة حاليا عبر خطواتها التأسيسية المتلاحقة (1982ــ1997ــ 2000 ــ 2005) وذلك بجعلها منطقة للتكامل الإنتاجى أيضا».
وفى كلمة، إنه من خلال التفعيل الإرادى المؤسِّس لعملية التكامل، والمدفوع بـ«سياسة» من جوهر جديد؛ يمكن الانتقال إلى بناء جماعة اقتصادية عربية تمهّد لكيان عربى توحيدى فى مستقبل الزمان.