يشهد شهر مارس الجارى، وتحديدا الأيام من 12 إلى 30 منه مئوية حدث طواه النسيان رغم أهميته وهو مؤتمر القاهرة الذى نظمه وزير المستعمرات البريطانى آنذاك ونستون تشرشل وأقيم المؤتمر فى معلم من أجمل وأفخم النماذج المعمارية على نيل القاهرة وهو فندق سميراميس القديم الذى هدمناه للأسف بأيدينا.
شارك فى المؤتمر إلى جانب تشرشل أساطين ورموز الفكر الإمبريالى البريطانى مثل لورانس الذى جعلنا غسيل المخ الغربى نطلق عليه لورانس العرب رغم أنه بلا جدال لورانس الإمبراطورية البريطانية وأجهزة استخباراتها، وكان يشغل وقتها منصب مستشار لوزير المستعمرات، إضافة إلى المارشال اللنبى القائد العسكرى الشهير الذى احتل فلسطين والقدس خلال الحرب العالمية الأولى وكان وقت المؤتمر المندوب السامى البريطانى فى مصر، فضلا عن السير بيرسى كوكس المندوب السامى البريطانى فى العراق والذى شغل منصب المندوب البريطانى المقيم فى منطقة الخليج قبل الحرب العالمية الأولى ووطد علاقاته مع القبائل العربية والمشايخ ومنهم ابن سعود وآل الصباح ونجح فى اجتذابهم إلى جانب بريطانيا وشجعهم على الانشقاق عن الأتراك. وصحب السير بيرسى كوكس معه سكرتيرته المخلصة جيرترود بيل التى كان لها دور كبير فى توطيد الحكم الهاشمى فى العراق وهى رغم خدمتها الكبيرة للاستعمار البريطانى إلا أنى لا أملك إخفاء إعجابى بها وهى السيدة التى أجادت لغات عديدة منها العربية والتركية والروسية وكانت فارسة جابت الأرض من الشام إلى القسطنطينية على صهوة جوادها وكانت تجيد الرماية والقتل بالسيف، ولقبت فى وقتها بأميرة الصحراء وأغبط بريطانيا عليها وأتمنى أن يكون لدينا فى عالمنا العربى المئات مثلها. كان حاضرا أيضا السير هربرت صامويل المندوب السامى البريطانى فى فلسطين.
كان هناك تمثيل قوى لسلاح الجو الملكى البريطانى بعد أن أظهرت الحرب حيوية هذا السلاح فكان ممثلا فى المؤتمر مارشال الجو السير هيو ترنشارد رئيس أركان السلاح الجوى الملكى البريطانى ومارشال الجو سير جيوفرى سالموند قائد القوات الجوية البريطانية فى الشرق الأوسط.
***
ومن الجانب العربى حضر جعفر العسكرى وزير الدفاع فى الحكومة العراقية التى أقامتها بريطانيا وقد كان ضابطا فى الجيش العثمانى أسره البريطانيون أثناء حملتهم على قناة السويس وحوّل ولاءه إلى الحلفاء، وقد صار لاحقا رئيسا للوزراء، وهو صهر نورى السعيد رئيس الوزراء الذى قتل خلال ثورة العراق عام 1958، فضلا عن حزقيال ساسون وهو يهودى عراقى كان وزيرا للمالية فى الحكومة العراقية.
عقد المؤتمر فى وقت دقيق بالنسبة لبريطانيا التى رغم خروجها منتصرة فى الحرب العظمى إلا أنها خرجت مستنزفة مستهلكة تشعر أن شمس إمبراطوريتها التى لا تغرب بدأت فى الأفول ولعل أن الشرق الأوسط والعالم العربى كانا من أكثر المناطق التى شعرت بالتهديد بسبب ظهور غشها وتدليسها على شعوبها وبطلان وعودها لهم بالدولة الحرة المستقلة بعد الحرب فى مراسلات المندوب السامى البريطانى فى مصر هنرى مكماهون مع الشريف حسين بن على شريف مكة يحضه على الثورة على تركيا مقابل الاعتراف به ملكا على دولة عربية موحدة بعد الحرب ثم يكتشف العرب أن بريطانيا اتفقت مع فرنسا على تقسيم الدول العربية بينهما فى اتفاقية سايكس بيكو ثم أعطى وزير خارجيتها اللورد بالفور وعدا بريطانيا بإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين. ولم تكتفِ بريطانيا بذلك بل إنها رفضت الاعتراف بالشريف حسين عندما أعلن نفسه ملكا يوم إعلان ثورته على الدولة العثمانية يوم 2 نوفمبر 1916.
وما لبث أن قامت الحرب النجدية الحجازية بعد رفض ابن سعود قبول مملكة الحجاز وهى الحرب التى أدت إلى سقوط الحكم الهاشمى فى الحجاز وفرار الشريف حسين إلى قبرص وقد تلقى ابن سعود دعما قويا من بريطانيا. ثم كانت معركة ميسلون فى يوليو 1920 والتدخل الفرنسى فى سوريا بعد دخول فيصل بن الحسين دمشق بجيشه وتنصيب نفسه ملكا إلا أن فرنسا رأت فى ذلك نكوص بريطانيا فى اتفاقية سايكس بيكو. أدى ذلك إلى غضب عبدالله بن الحسين لعزل شقيقه فحشد قواته فى مدينة معان للزحف على سوريا مما هدد بتعكير العلاقات البريطانية الفرنسية. وفى العام نفسه قامت الثورة العراقية ضد الإنجليز والتى شارك فيها السنة والشيعة والأكراد فى جهة واحدة وقد قمع الإنجليز هذه الثورة بوحشية بالغة قتلوا خلالها عشرين ألف عراقى باستخدام مكثف لسلاح الطيران قصفت فيه الطائرات الثوار لأول مرة بالغازات السامة من الجو. قبل ثورة العراق كانت ثورة مصر عام 1919 وقبلها كانت ثورة عمر المختار فى ليبيا التى هاجم خلالها حدود مصر فى معركة السلوم عام 1908.
***
عقد المؤتمر فى ظل هذه الظروف الملتهبة بعد أن اكتسبت البلاد العربية والشرق الأوسط أهمية استراتيجية كبرى بعد أن تحول مصدر الطاقة الرئيسية من الفحم إلى البترول بعد ميكنة الحرب فى الحرب العالمية الأولى، فالطائرة لا يمكن أن تعمل بالفحم كذلك الغواصة والدبابة والسيارات وحتى البوارج، فقد كان تشرشل أثناء توليه وزارة البحرية فى الحرب ومعه القائد البحرى الكبير الأميرال جون فيشر من عمل على تحويلها من الفحم إلى البترول، وبالتالى أصبح الحفاظ على مصادر البترول من أهم أولويات الإمبراطورية.
نجح مؤتمر القاهرة فى تهدئة الأوضاع التى كانت تهدد بريطانيا فراضت أبناء الشريف حسين بتعويض فيصل بعرش العراق بدلا من عرش سوريا، ومنحت عبدالله إمارة شرق الأردن، ومنحت مصر استقلالا منقوصا لم يحل بينها وبين اقتحام قصر عابدين لإجبار الملك على تعيين رئيس وزراء ترضى عنه، أما الفلسطينيون الذين تضرروا من وعد بلفور فلم يسمح لوفدهم من حضور المؤتمر ثم مهدوا الأمر للوكالة اليهودية حتى سنحت لهم الفرصة لإعلان دولة إسرائيل.
نجحت بريطانيا فى تأخير أفول شمس إمبراطوريتها لحوالى ثلاثة عقود حتى استنفدت قوتها فى حرب عالمية ثانية وأزاحتها الولايات المتحدة من مكانة الصدارة فى العالم ثم كانت الضربة القاضية التى تلقتها من مصر على ضفاف قناة السويس فى عام 1956 التى أنهت عصر الإمبراطوريات الاستعمارية.