ترمومتر الأدب - يحيى عبدالله - بوابة الشروق
الأربعاء 12 مارس 2025 12:18 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

ترمومتر الأدب

نشر فى : الثلاثاء 11 مارس 2025 - 10:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 11 مارس 2025 - 10:50 م

كان الأديب الإسرائيلى، المعروف، عاموس عوز (1939م ـ 2018م)، واحدًا من أهم مفكرى اليسار الإسرائيلى، ومن مؤسسى حركة «السلام الآن»، ومناهضًا عنيدًا لفكرة طرد الفلسطينيين من أرضهم؛ وقد عبَّر، عن معارضته لهذه الفكرة، بوضوح، فى خطاب ألقاه خلال حشد شعبى لحركة «السلام الآن» عام 1989م، وصف فيه أنصار حركة «كاخ»، الإرهابية، العنصرية، التى تبنت الفكرة، فى حينه، بأنهم طائفة ماشيحانية (غيبوية) منغلقة، ووحشية، وعصابة مسلحة من قطاع الطرق، ومجرمون فى حق الإنسانية، وساديون، ودمويون، وقتلة أطلوا من زاوية معتمة باليهودية من قلب أقبية التَّبَهُم والدنس لفرض طقوس مجنونة متعطشة للدماء (...) علينا أن ننهض، وأن نقول بحدَّة ووضوح، فى مواجهة فكرة طرد ونفى العرب، التى تُسمَّى لدينا زورًا وبهتانًا «ترانسفير»: إنها فكرة مستحيلة، لأننا لن نسمح لكم بطرد العرب حتى لو اضطررنا لإحداث انقسام داخل الدولة وداخل الجيش. حتى لو اضطررنا لأن نستلقى تحت عجلات الشاحنات. حتى لو اضطررنا إلى نسف الجسور(...) على اليمين الإسرائيلى أن يعرف أن هناك أفعالًا إذا حاول أن يفعلها فسوف يتسبب فى تفكيك الدولة.
لم يعش، عاموس عوز، حتى يرى أن اليمين الكَهَنى ـ نسبة إلى الحاخام ميئير كَهَنا ، المتطرف، زعيم حركة «كاخ»، لم يعد الفصيل الوحيد، الذى ينادى بتطبيق هذه الفكرة العنصرية، وإنما اليمين بكل أطيافه، ومعظم ما يُسمَّى بالوسط، بل حتى بعض أطياف اليسار. هناك ما يشبه الإجماع الإسرائيلى، الآن، على الفكرة. هكذا تشير استطلاعات الرأى، التى جرت مؤخرًا حول المسألة. ربما يكون للهجوم المباغت، الذى شنته حركة حماس وسائر فصائل المقاومة فى قطاع غزة، على إسرائيل، فى السابع من أكتوبر 2023، دورٌ فى التفاف أغلبية المجتمع الإسرائيلى حول الفكرة.
لكن العنصر المؤثر، فى نظرى، هو انزياح المجتمع تجاه اليمين انزياحًا ملموسًا، الأمر الذى جعله مهيَّأ لتقبل مثل هذه الأفكار البغيضة. لقد طرأ تغيرٌ على بنية المجتمع الإسرائيلى، بكل قطاعاته. فى المؤسسة العسكرية، على سبيل المثال، بوصفها وحدة اجتماعية مهمة، يشير الباحث، ياجيل ليفى، إلى أن الجيش يمر «بعملية تنظير دينى تغير من ثقافته وأنماط سلوكه». هو يرى أن المؤسسة العسكرية تتبنى مشروعًا لتهويد الجيش، وأن الحاخامات صار لهم تأثير عليه وعلى جنوده، وأن المعاهد الدينية التى تؤهل الشباب والشابات للخدمة العسكرية تتبنى مشروع إلحاق خريجيها بوحدات ما يُسَمَّى بـ«النخبة». وأحصى أورى مسجاف، وهو كاتب عامود فى جريدة هاآرتس، قائمة طويلة من الوقائع والأحداث، التى تثبت، فى نظره، أن إسرائيل تتعرض لما أسماه «وباء التديين».
• • •
فى مجال الأدب، يلاحظ المشتغلون فى هذا الحقل، وأنا واحدٌ منهم، أن الأدب الإسرائيلى يمر بعملية مخاض، تشير مؤشراتها إلى أن هناك اتجاهًا دينيًا يمينيًا آخذ فى التشكل، والتبلور، بدأ يزاحم، بل يقصى الاتجاه العلمانى، الذى ساد لعقود غير قليلة. انتهى زمن احتكار الأدباء العلمانيين للأدب ومواضيعه، وبدأ أدباء من التيار الدينى يهيمنون، ويسيطرون، ويعبرون عن قضايا المجتمع، عامة، وقضايا المتدينين خاصة. لم يعد المتدينون محط سخرية الأدباء العلمانيين، الذين اتهموهم، ذات يوم، بأنهم يفتقدون روح الإبداع والكتابة.
عكس الأدب الإسرائيلى ظاهرة الانزياح نحو اليمين، إذ وقع اختيار لجنة المحكمين لجائزة «سابير» للرواية لعام 2024م، وهى من الجوائز الرفيعة داخل إسرائيل، لباكورة الأعمال الأدبية، على ثلاث روايات لكتاب متدينين ينتمون إلى تيار «الصهيونية الدينية»، بل إن مضمون الروايات، نفسها، كلها، يدور حول عالم «الصهيونية الدينية». أصبحت الأعمال الأدبية، التى تتناول هذا التيار الصهيونى، أو يكتبها أدباء ينتمون له، ظاهرة أدبية ملموسة خلال السنوات الماضية. وقد أوعزت لإحدى طالباتى، بمرحلة الدكتوراه، منذ عامين، تقريبًا، بدراسة الظاهرة فى إحدى الروايات التى تتناول مسيرة ثلاثة أجيال من أجيال «الصهيونية الدينية»، اجتماعيًا وسياسيًا، بخاصة، منذ نشأة هذا التيار وحتى الآن. تعد الصورة، التى تعكسها كتابات هؤلاء الأدباء عن «الصهيونية الدينية»، كما يقول الناقد والأديب، أريك جلاسنر، «أكثر تعقيدًا من الصورة التى عكستها كتابات عنها من فترات سابقة أو مقابلة حتى زمنيًا، وأكدت الوجه «الماشيحانى» ـ الغيبوى ـ اليمينى المتطرف بها».
يعزو جلاسنر سبب الحضور المتزايد للأدباء المتدينين على الساحة الأدبية فى إسرائيل، سواءٌ على صعيد الكم أم الكيف، إلى ثلاثة عوامل: الأول، أن الصهيونية الدينية أصبحت بالفعل النخبة الإسرائيلية الجديدة، مشيرًا إلى أن أنصارها يخدمون فى الجيش ـ على العكس من المتدينين الحريديين ـ وإلى أن الإحصائيات تشير إلى أن العدد الأكبر من القتلى الإسرائيليين فى الحرب على غزة كان من بين صفوف أبنائها، وإلى وصول رجلها ـ بتسلئيل سموتريتش ـ إلى أرفع المناصب الحكومية. يتعلق العامل الثانى بما يسمَّى بالاتجاهات «الليبرالية»، التى يعبر عنها أدباء «الصهيونية الدينية» فى كتاباتهم، ومن بينها مشاكل المثليين من المتدينين، والمرتدين منهم عن الدين، وما شاكل ذلك. ويتعلق العامل الثالث بطبيعة اللغة، نفسها، التى يكتب بها هؤلاء الأدباء، وهى لغة تقيم علاقة حميمة مع مفردات التراث اليهودى وما به من طقوس.
نحن نعرف هذا التيار من خلال الحزب الذى يحمل الاسم، نفسه، ومن خلال التصريحات الاستفزازية لزعيمه، سموتريتش، وزير المالية فى الحكومة اليمينية، الأكثر تطرفًا فى تاريخ دولة إسرائيل، سواء فيما يخص دعوته إلى استئناف الحرب على قطاع غزة وإعادة احتلاله وطرد سكانه منه، وإقامة مستوطنات إسرائيلية به، أم من خلال الحملة الشرسة التى يتبناها ضد الفلسطينيين فى الضفة الغربية المحتلة ودعوته إلى أن يكون عام 2025 عام ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل.
• • •
ينبئنا التاريخ المعاصر، أن «الصهيونية الدينية» تيار أيديولوجى ضمن تيارات عديدة بالحركة الصهيونية، أيَّد حاخاماته، خلافًا لرؤية معظم حاخامات التيار «الحريدى»، المساعى البشرية التى قادها، تيودور هرتسل، زعيم التيار السياسى بالحركة، من أجل إقامة دولة لليهود فى ما يُزعَم بأنه «أرض إسرائيل» ـ فلسطين ـ وانضووا تحت لوائها، منذ عُقد المؤتمر الصهيونى الأول عام 1897م، تحت كتلة سميت «همزراحى» ـ أى المركز الروحى ـ وأنشأوا تنظيمات صهيونية عُرفت باسم «محبو صهيون»، فى جميع أنحاء الإمبراطورية الروسية، ونشطوا فى مجال تهجير يهود أوروبا إلى فلسطين، واستيطانها، والتجذر بها، وفى مجال التعليم العبرى، واستعمال اللغة العبرية فى الحياة اليومية على أرض فلسطين.
أضفى هذا التيار بُعدًا يهوديًا دينيًا على الحركة. من الحاخامات البارزين، الذين كان لأفكارهم تأثير بالغ على هذا الاتجاه، الحاخام، أفراهام يتسحاق هكوهين كوك (1865م ـ 1935م)، أول حاخام أكبر لليهود الإشكناز فى فلسطين، الذى زعم أن الاستيطان اليهودى فيما يُسمَّى «أرض إسرائيل»، هو بداية ما يُعرف فى الأدبيات الدينية اليهودية بـ«الخلاص»، وأن الهجرة إليها فى حكم الفرض الدينى على كل يهودى، وأن الصهيونية، السياسية، جزء من «برنامج إلهى»، على حد تعبيره، موجَّه من أعلى، وأنه على الرغم من أن الصهاينة العلمانيين ينكرون كل صلة للدين فيما يفعلون، فإنهم يمثلون أداة فى يد الرب وينفذون مشيئته، ومن ثم فإن الصهيونية لا تُعدُّ كفرًا، فى نظره، كما يقول «الحريديون».
• • •
لا يرى منظرو «الصهيونية الدينية» بأسًا فى أن يكون هناك تداخل بين الدين والدولة، فى أن يتعايش الدين والسياسة جنبًا إلى جنب. إذ يقول الحاخام، بن تسيون ميئير حى عوزيئيل (1880م ـ 1953م): «كانت التوراة والدولة وستكونان فى إسرائيل كيانًا واحدًا موحَّدًا لا انفصام بينهما، لأن كل واحدة منهما مرتبطة بوجود نظيرتها…». ويقول الحاخام، يهودا ليف ميمون (1875م ـ 1962م): «لا تفرق توراتنا بين هاتين الرؤيتين اللتين تتغذيان من مصدر واحد، هو مصدر وجود الأمة. تتحدث توراة الإله الحى التى هى شريعة للحياة أيضًا عن رسالات مادية، ودولاتية، مثلما تتحدث عن رسالات روحية دينية أيضًا». واعتبر المنظر الأكبر للصهيونية الدينية الحاخام كوك، الدولة بأنها «قاعدة كرسى الرب فى العالم، وأن دورها هو التماس وكشف مملكة الإله».
انخرط أنصار الصهيونية الدينية، قبل قيام دولة إسرائيل، فى التنظيمات العسكرية السرية الإرهابية اليهودية، مثل «الهجانا» و«البلماح» ـ سرايا الصاعقة ـ وشاركوا فى حرب 1948م فى إطار سرايا خاصة بالمتدينين، وأسهموا فى بناء عشرات من المستوطنات فى جميع أنحاء فلسطين. هم فصيل فاعل ومؤثر، وخطير داخل المجتمع الإسرائيلى. وهو فى حالة نمو وتصاعد. من هنا، تكمن أهمية رصد وتتبع نشاط زعمائه السياسيين، والروحيين، بالتوازى مع دراسة ما يكتبه الأدباء المنتمون له، لأن قوة الأدب وأهميته لا تكمن فى أنه يعكس ما بالمجتمع من اتجاهات جديدة وحسب، وإنما فى قدرته الفذة على استشراف هذه الاتجاهات والتنبؤ بها، وتخيل حتى مآلاتها.

أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة

 

يحيى عبدالله أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة
التعليقات