يحتدم الصدام بين إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وعدد من الجامعات الأمريكية، فيما اعتبره البعض هجومًا يشنه الرئيس بهدف فرض سيطرته السياسية والأيديولوجية على الجامعات، وفق ما يمكن اعتباره مبادئ حركة جعل أمريكا عظيمة من جديد Make America Great Again أو MAGA، وهو الشعار الذى تبناه ترامب لحملته الانتخابية منذ عام 2016.
تدور المعارك حول قضايا تقع فى صميم مبادئ الحريات الأكاديمية واستقلال الجامعات، منها حرية التعبير والبحث العلمى وإدارة شئون الجامعات دون تدخلات حكومية، بما فى ذلك قبول الطلاب وتعيينات أعضاء هيئات التدريس والقيادات الجامعية وتصميم البرامج الدراسية، ومع الاعتراف بأن الواقع لا يطابق القواعد دائمًا، فمن المفترض أن تبقى هذه القضايا بعيدة عن تدخل الحكومة الفيدرالية.
لكن إدارة ترامب دخلت فى مواجهات صريحة مع كبرى الجامعات الأمريكية بدعوات شتى منها السعى لضمان التنوع الفكرى، حيث يُنتقد عدد من الجامعات الأمريكية الكبرى لسيادة التوجهات اليسارية فيها، ومنها «جامعة هارفارد» درة الجامعات الأمريكية، كما تدخلت الإدارة الأمريكية لمجابهة ما اعتبرته معاداة للسامية، وهى التهمة التى وصمت بها المظاهرات والحركات الطلابية ضد جرائم الاحتلال الإسرائيلى فى غزة، ووصف ترامب وقيادات إدارته كبرى الجامعات الأمريكية بأنها معاقل للماركسية ومخابيل اليسار left wing lunatics، الذين يفتحون أبوابهم للطلاب من شتى أنحاء العالم لتمزيق بنية المجتمع الأمريكى.
تستخدم إدارة ترامب أدوات متنوعة فى هجومها على الجامعات، منها وقف أو التهديد بوقف التمويل الفيدرالى، والتهديد بعدم منح تأشيرات إقامة وعمل أو إلغاء التأشيرات الممنوحة بالفعل للطلاب والباحثين بالجامعات التى تدخل معها فى صدام، واحتجاز وترحيل عدد منهم بتهم مختلفة منها معاداة السامية.
على الجانب الآخر، اعتبر محللون هذه السياسات انعكاسًا للعداء المتأصل فى النظم السلطوية تجاه الجامعات، واستدعى باحثون وكتاب نماذج مثل: هتلر وموسولينى وفيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، وكلهم سعوا لحصار الجامعات التى تشككوا فى ولائها وسعوا لضمان ولاء أعضاء هيئات التدريس بها، فالجامعات بطبيعتها مساحات للعقلانية والتنوع والاستقلال الفكرى، وهو ما لا يتسق مع الجموح السلطوى للتفرد بالرأى ومعاداة الأصوات التى قد تدعى أن لديها من الحكمة، أو المعرفة المتخصصة، ما يفوق الحاكم.
شبّه بعض المحللين هذه الهجمة بفترة المكارثية خلال أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، التى قادها السيناتور جوزيف مكارثى ضد من اعتبرهم أنصارًا للشيوعية فى الولايات المتحدة، وراح ضحية الهجمة المكارثية عشرات الآلاف تم التحقيق معهم أو فُصلوا من وظائفهم أو وضعوا على قوائم سوداء حاصرتهم فى حياتهم المهنية والشخصية.
الفرق هذه المرة أن البعض يرى أن الحركة الساعية إلى حصار ووصم المعارضين فى الجامعات الأمريكية لا يتزعمها سيناتور، وإنما الرئيس الأمريكى نفسه، ومن ورائه حركة اجتماعية لها أساس اجتماعى صلب، وقابلية للاستمرار لعقود مقبلة.
لذا تعكس المعارضة لسياسات ترامب خوفًا من فقدان الولايات المتحدة لأحد أهم دعائم قوتها الناعمة وتفوقها الاقتصادى والتكنولوجى والعسكرى، وهى قوة جامعاتها وجاذبيتها لأفضل العقول حول العالم.
*
تدور رُحى المعارك فى ساحات الإعلام والقضاء والكونجرس. اعترضت جامعة هارفارد على مطالب إدارة ترامب، ومنها طلبات للسماح للحكومة الفيدرالية بمراجعة الملفات المقدمة للالتحاق والتعيين بالجامعة، وهى الطلبات التى اعتبرها رئيس الجامعة آلان جاربر غير قانونية، وتمثل تجاوزًا لسلطات الحكومة الفيدرالية، وأقامت الجامعة دعوى قضائية ضد الإدارة بسبب وقف تمويل فيدرالى قيمته حوالى 2.2 مليار دولار، وهو القرار الذى اتخذته الإدارة كرد فعل لرفض الجامعة لمطالبها علانية، كذلك هددت الإدارة بإلغاء الإعفاء الضريبى الذى تتمتع به الجامعة كغيرها من مؤسسات التعليم العالى.
رغم رضوخ عدد من الجامعات لمطالب إدارة ترامب، ومنها جامعة كولومبيا، التى وافقت على مطالب متعلقة بمراجعة البرامج الدراسية خاصة فى مجال دراسات الشرق الأوسط وتوسيع التدخل الأمنى ضد المظاهرات والحركات الطلابية، فقد ظهرت عدة تحركات لمناوءة مساعى الإدارة للسيطرة على الجامعات. منها صياغة عريضة وقع عليها أكثر من 400 من أعضاء هيئات التدريس بالجامعات الأمريكية ضد ما اعتبروه تجاوزات حكومية وتدخلات سياسية غير مسبوقة unprecedented government outreach and political interference فى الحياة الجامعية.
شملت التحركات القضائية الدعوى التى أقامتها الجمعية الأمريكية لأعضاء هيئات التدريس American Association of University Professors ضد سياسات الإدارة بخصوص الطلاب الأجانب، بما فى ذلك إلغاء التأشيرات الدراسية واحتجاز عدد من هؤلاء الطلاب، وهى الدعوى التى انضمت لها 86 جامعة، ومن المتوقع أن تتوسع المواجهات القضائية فى الفترة المقبلة.
من المنتظر كذلك أن تنتقل حدة المواجهات إلى الكونجرس مع مناقشة الميزانية الفيدرالية لعام 2026، ويشتمل مقترح البيت الأبيض على تقليص حاد لميزانية البحث العلمى، حيث تنخفض ميزانية المؤسسة الوطنية للعلوم National Science Foundation بحوالى 56%، وهى المؤسسة التى تلعب دورًا رئيسيًا فى تمويل البحث العلمى فى مجالات العلوم والهندسة والتكنولوجيا والرياضيات، كما يشمل المقترح تقليص ميزانية الوكالة الأمريكية للصحة National Institutes of Health بحوالى 40%، وهى الوكالة الأهم فى تمويل البحث العلمى فى مجالات الطب والرعاية الصحة.
وتتسع قائمة تقليص الدعم لتشمل عديدًا من المؤسسات البحثية فى العلوم الطبيعية والاجتماعية، وهو ما رفع الأصوات المناهضة لما اعتبرته نزعة سلطوية لإدارة ترامب، وهى النزعة التى تعادى الجامعات عامة، وتتساوى فى هذا العداء الجهات العاملة فى حقول العلوم الطبيعية والاجتماعية.
*
لقد اعتمد ثراء الجامعات الأمريكية ودورها فى النهضة الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية للولايات المتحدة على عدة أسس، أولها استقلالية الجامعات فى إدارة شئونها، مع عدم انغلاقها على نفسها، والاعتراف بتأثرها بقوى مختلفة من المجتمع والمانحين وغيرهم، فالاستقلالية هنا تشير إلى قدرة الجامعة على التفاعل مع محيطها وفتح مجالات للمنافسة والتلاقى بين التوجهات المتنوعة، مع الحرص على مبادئ أساسية لحرية البحث العلمى والتعبير والاختلاف. ولم يكن تطبيق هذه المبادئ يسيرًا دائمًا. فاستقلالية الجامعات عملية مستمرة من المد والجذر يتم خلالها ترسيم مساحات تضيق وتتسع حسب الظروف، مع الحفاظ على مساحات وقيم أساسية تسمح بالإبحار عبر التحديات.
كما ارتبطت التجربة الجامعية الأمريكية بسخاء التمويل الفيدرالى، إضافة إلى المصادر الخاصة، مع التأكيد على مبادئ التنافسية والإدارة الذاتية للموارد. فالحصول على التمويل عملية تنافسية مفتوحة للباحثين والأكاديميين فى مختلف الجامعات والمؤسسات البحثية. وتبقى مسئولية إدارة التمويل بيد الفرق البحثية وفق الضوابط التى تضعها الجامعة بالأساس.
وأخيرًا، ارتبط نجاح التجربة الأمريكية بالطلبة والباحثين الأجانب. وقد استفادت الجامعات الأمريكية من قدرتها على اجتذاب عديد من العلماء من أوروبا خلال فترة الحرب العالمية الثانية، بمن فيهم العلماء اليهود الهاربون من اضطهاد السلطات الألمانية فى ذلك الوقت. وأشار تقرير أصدره مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية الأمريكى US Patent and Trademark Office عام 2025 أن 40% من براءات الاختراع فى الولايات المتحدة عام 2012 كانت لمهاجرين، بينما أشار تقرير آخر للمكتب الوطنى للبحوث الاقتصادية National Bureau of Economic Research (NBER) صدر عام 2023 إلى أن المهاجرين يساهمون بحوالى ربع الابداعات ذات التأثير العلمى والاقتصادى الأعلى.
حتى إن إيلون ماسك، وهو أحد أقطاب نظام ترامب، كان طالبًا وافدًا فى جامعة بنسلفانيا بين عامى 1992 و1995، قبل أن يحصل على الجنسية الأمريكية عام 2002، وهو نفس العام الذى أسس فيه شركة SpaceX.
•••
يخشى البعض أن سياسات ترامب تهدد الأسس التى قامت عليها الجامعات الأمريكية، التضييق على استقلالية الجامعات وتمويلها، واستخدام التمويل كسلاح فى مواجهة الجامعات، يهدد قدرة المؤسسات الأكاديمية على القيام بالبحث العلمى المتوقع منها، خاصة فى مجالات البحوث الأساسية basic research، أى تلك التى تهتم بإنتاج المعرفة العلمية دون إيلاء أولوية للتطبيق، ومن ثم لا يُقبل عليها القطاع الخاص، مثل الأبحاث فى مجال فيزياء الكم والجينوم البشرى.
كما أن الولايات المتحدة لم تعد قبلة الطلاب الأجانب، أظهر استطلاع رأى قامت به مجلة Nature أن 75% من حوالى 1600 من العلماء الذين شاركوا فى الاستطلاع يرغبون فى مغادرة الولايات المتحدة، وكان جايسون ستانلى، أستاذ الفلسفة بجامعة "يال" Yale العريقة، قد أعلن ترك وظيفته والانضمام إلى جامعة تورنتو بكندا، وغادر معه أستاذان آخران من نفس الجامعة، وتراوحت الأسباب بين مخاوف شخصية وأخرى تتعلق بالوضع غير المستقر فى البلاد، ومن هنا قد يكون من المناسب الحديث عن تهجير العقول قبل هجرة العقول. إن خنق الحريات الأكاديمية وتهديد الأكاديميين فى سلامتهم الشخصية وسلامة أسرهم وغموض مستقبلهم هو بوابة تهجير العقول، وهو البوابة التى استفادت منها الولايات المتحدة خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حين استقبلت العقول المهاجرة من أوروبا، ويخشى المهتمون من تحول الدائرة فتصير الولايات المتحدة طاردة للعقول.
*
سيستمر الجدل حول استقلال الجامعات، وهو جدل صحى ما دام نُظر إلى هذه الاستقلالية باعتبارها عملية مستمرة وليس مباراة صفرية يفوز فيها طرف على حساب الآخر، ولن تكون هذه هى المرة الأخيرة التى تتصاعد فيها حدة الخلافات، وسيكون على الجامعات وأساتذتها تأكيد قيم العمل المشترك والخلاف الصحى وعدم التمييز، وسيكون على العقلاء فى الولايات المتحدة وغيرها تقدير قيم جامعاتهم كدعائم لقوة الدولة الناعمة والخشنة، ومع هذا الاتفاق العام، تستمر الجامعات محتفظة بقدرتها على العمل المستقل والمنتج.