تأملات فى السرديات والأيديولوجيات والأفكار الكبرى! - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الأحد 27 يوليه 2025 9:16 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

تأملات فى السرديات والأيديولوجيات والأفكار الكبرى!

نشر فى : السبت 26 يوليه 2025 - 7:20 م | آخر تحديث : السبت 26 يوليه 2025 - 7:20 م

تنبيه: هذا تأمُّل فكرى بحت، يدور فى عالم الأفكار المجرَّدة التى يُؤخذ منها ويُرد، فلا هى تمثِّل سلوكيات حياتيّة مستقرة، ولا قناعات نهائيّة للكاتب!
يرى بعض المؤرخين أن حركة التاريخ والبشر تتغيّر من خلال السرديات أو الأفكار الكبرى، وأن حياة البشر تشكّلها مجموعة من القناعات والانتماءات المتخيّلة! فيرى المؤرخ يوفال هرارى أن الكيانات والأفكار والمبادئ الكبرى، كالشركات والدول وفرق كرة القدم على سبيل المثال، هى خيالٌ بحت من صُنع البشر لا وجود واقعيا له!
فى تقديرى، وحتى تتمّ عملية الخيال البشرى الإبداعيّة، فلا بدّ للعقل البشرى أولا أن يقوم بعملية أخرى أقلّ إبداعًا من الخيال، وهى عملية التصنيف والتقسيم والتبويب، التى لا تخلو من تبسيط مُخلّ وغير واقعى، ولكنه يظل ضروريا من أجل القدرة على صُنع هذا الخيال البشرى!
• • •
فلنأخذ هذا المثال التالى للتبسيط: حينما أشرح لطلاب العلوم السياسية، سواء فى مصر أو الولايات المتحدة، عن المدارس الفكرية المختلفة فى السياسة الدولية، أقوم بالإشارة إلى ما يُطلق عليه «المدرسة الواقعية»، التى يؤمن مفكّروها بأنه لا مجال للأخلاق والقيم والمبادئ فى العلاقات بين الدول، وأن المصلحة الوطنية هى المحرّك الرئيسى لسياسات الدول الخارجية، ومن هنا تأتى سباقات التسلّح، ومن ثم الصراعات والحروب! ما قلته لهم صحيح نظريّا، ولكنه يتضمّن قدرًا كبيرًا من التبسيط المُخِلّ عن طريق التصنيف والتبويب لمواقف وكتابات أولئك المفكرين والسياسيين الذين نطلق عليهم واقعيّين!
وبينما توجد بالفعل أسبابٌ للجمع بين هؤلاء المفكرين الذين نفترض انتماءهم للمدرسة الواقعية، إلا أنّه إذا قمنا بفحصٍ أكثر دقة لمجمل كتاباتهم ومحاضراتهم ومواقفهم السياسية، فسنجد أنهم لم يتّفقوا جميعًا على هذه القناعات! بل إنّ نفس الكاتب أو المفكر أو السياسى الذى قيل إنه ينتمى إلى هذه المدرسة، إذا تم تتبّع كتاباته ومحاضراته ومواقفه السياسية، فقد نجد أنها تتقاطع فعليًا مع كلٍّ من المدرسة الواقعية، وتلك المدرسة الأخرى التى تُسمّى الليبرالية أو المثالية، وهذه الأخيرة - وعلى النقيض من الواقعية - ترى أن العلاقات الدولية تقوم على التعاون المشترك، وإعلاء المصالح والمبادئ والقيم المشتركة بين الدول، من أجل تحقيق مكاسب جماعية! وبالتالى، حديثى كأستاذٍ عن المدرسة الواقعية هو غير دقيق ولا واقعى، ولكنه مبسّط بشكلٍ مُخِلّ، ومع ذلك فإنّ هذا التبسيط المُخِلّ يظل مقصودًا من أجل جعل عملية الفهم للطلاب ممكنة!
يمكن تعميم ذلك على طرق دراسة عددٍ آخر كبير من الظواهر السياسية والاجتماعية، ولولا القدرة البشرية على هذا النوع من التخيل، الذى اعتمد فى الأساس على التصنيف والتجريد، لما كنّا قد شاهدنا عملية التراكمات العلمية، ولا حتى كان من الممكن تشكيل ما يُطلق عليه القناعات الفكرية أو السياسية أو الأيديولوجية!
لكن للموضوع وجهًا آخر أعمق وأهم! يحتاج معظم البشر إلى الشعور بالانتماء، لأنّ هذا الأخير يمنح السكينة والاطمئنان، كما أنه يضفى على الحياة معنًى، وهذا المعنى لطالما كان المحرك الرئيسى الذى يجتهد البشر فى البحث عنه منذ فجر الحضارات! فالانتماء – المتخيل والمبسّط – لدولة، لقبيلة، لأسرة، لدين، لعقيدة سياسية، أو حتى لشركة أو مؤسسة، هو ما يمنح للحياة معنًى!
مثلًا، يعتقد الشيوعيون والرأسماليون سواء، أن هناك بالفعل أيديولوجيا يمكن أن نُطلق عليها «الشيوعية»، وأن لهذه الأيديولوجيا بنية متماسكة ومبادئ محددة، ومجموعة من المفكرين والسياسيين الذين طبّقوها بهذا الشكل. لكن فى الواقع، ليس هناك شيوعية واحدة، ولا اشتراكية واحدة، ولا حتى رأسمالية واحدة! لا أتحدث هنا فقط عن المساحة بين النظرية والتطبيق، ولكنى أتحدث أيضًا عن عدم وحدة وتماسك هذه النظريات أو الأيديولوجيات بينما تنتقل عبر عالم الزمان والمكان والأشخاص والظروف الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، أو فى أفكار وسلوكيات وكتابات المنتمين إليها عبر الزمن كذلك!
• • •
ينطبق الأمر أيضًا على سرديات الأديان! ما نعتقد أنه الدين، ليس بالضرورة أبدًا أن يكون هو الرسالة «النقيّة» أو «الأصليّة» كما جاءت فى نسخة هذا الدين الأولى! على سبيل المثال، يقول البعض إحصائيًّا إن من بين البشر المتديّنين فى العالم، يأتى المسيحيّون فى المركز الأول من حيث العدد! ربما المعلومة دقيقة إحصائيًّا، لكن على أرض الواقع، هذا وهم! من ناحية لأنّ رسالة السيد المسيح وتعاليمه ومواقفه نُقلت إلينا من خلال سرديات، وهذه الأخيرة، بينما كانت تنتقل عبر ألفَى عام، اختلطت بثقافات وبيئات وظروف مناخية وتطور معلوماتى وتكنولوجى، وسيكولوجيات وتصرفات بشرية، ومراحل سياسية واقتصادية مختلفة حتى وصلت إلينا الآن، ومن يعلم كيف سيصبح الأمر عند المسيحيين الذين سيولدون بعد ألفَى عام من الآن مع التطورات البشرية والثقافية والسياسية والتكنولوجية التى ستحدث خلال العشرين قرنًا القادمة! لاحظ أننى لا أتحدث هنا عن الأناجيل الأربعة، ولا عن تقسيمات الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، فالأمر أعمق من هذا بكثير! فحتى من يؤمنون بالبروتستانتية نفسها، ليسوا جميعًا على نفس المذهب كما يُتصوَّر نظريًّا. فبروتستانتية الأمريكيّين من أصول إفريقية الذين يعيشون فى ولاية فلوريدا، مختلفة عن بروتستانتية أبناء عمومتهم الذين يعيشون فى جنوب إفريقيا، وناميبيا، وكينيا مثلًا!
وتصوّر الناس لشكل السيد المسيح فى اليابان يختلف عن تصوّره فى أستراليا أو روسيا أو نيجيريا! ثم إنّ بروتستانتية القرن السابع عشر تختلف عن بروتستانتية القرن الحادى والعشرين! فإذا ما تخيّلنا أننا استطعنا إحضار بروتستانتى هولندى عاش فى القرن السابع عشر، لمقابلة بروتستانتى معاصر إفريقى يعيش فى الكونغو اليوم، فقد لا يدرك أى منهما أبدًا أنّ الآخر يؤمن بنفس المذهب! هذا ليس عيبًا ولا طعنًا فى البروتستانتية ولا فى الديانة المسيحية، لكنه تأمّل فى حالة الخيال البشرى التى تدفعه للتصنيف والتبسيط، ومن ثم اتخاذ قرار الانتماء، لإضافة معانٍ حياتية، رغم أن الواقع قد يكون مختلفًا تمامًا!
• • •
كثيرًا ما سمعنا خطباء الجمعة يلومون «أمة المليار مسلم» التى تعجز عن إنقاذ فلسطين أو البوسنة أو الشيشان! ويبشّرون هذه الأمة بأنها لو «اتحدت» و«عادت إلى الله»، فإنها ستتزعم العالم كله! يؤسفنى إبلاغ شيوخنا الأفاضل بأنّ هذا الكلام مجرد وهم! ليس فقط بسبب عمومية وغموض مفاهيم مثل «الاتحاد» و«العودة إلى الله»، ولكن لأنه ليس هناك - من الأصل - مليار مسلم حتى يتّحدوا أو يعودوا إلى الله أو يقودوا العالم أو ينقذوا مسلمين آخرين يتعرّضون للظلم والاضطهاد! التشكيك هنا ليس فى العدد، ولكنى أشكّك فى معنى أن تكون «مسلمًا» من الأصل على أرض الواقع!
خيالُنا الخصب هو من جعلنا نعتقد أن هناك مليار «مسلم»، وفى الحقيقة فإنّ هؤلاء المسلمين متشعّبون بشكل لا يمكن تخيّله، وإلّا تعرّض البعض لصدمة! منها مثلًا أن عددًا معتبرًا من هؤلاء ملحد أو لا دينى، وقد لا يفضّلون الإعلان لأسباب مختلفة! كما أنّ هناك عددًا آخر من المسلمين يمارس الإسلام كثقافة أكثر منه دينًا! هذا ناهيك عن مذاهب السنة والشيعة، بل والتصنيفات داخل كلٍّ منهما بين مذاهب فرعية، وفرق فلسفية، وإثنية، ودعوية!
لا يتوقّف الأمر هنا فى الواقع! فإسلامُ السُّنة الأفارقة فى الولايات المتحدة يختلف عن إسلام السنة من ذوى الأصول الإفريقية والهندية فى جنوب إفريقيا، والأخير بدوره يختلف عن إسلام السنة فى إندونيسيا أو الصين! كذلك، فإسلامُ السنى الثرى يختلف عن إسلام السنى الفقير، بل وتصور الله لديهما، ومفاهيم العطاء والمنع والرزق أيضًا مختلفة، حتى لو مارسا الشعائر نفسها! كذلك فإنّ إسلام المتعلم مختلف عن إسلام الأمى! وإسلام من سافر وعاش كأقلية مسلمة فى دولة غير مسلمة، يختلف بدوره عن إسلام من عاش طوال عمره كأغلبية فى قرية صغيرة فى إحدى محافظات صعيد مصر، ولم يغادر محافظته ربما إلا مرة واحدة زار فيها مكة والمدينة من أجل الحج أو العمرة!
كذلك فإنّ قناعات وتصورات المسلمات اللاتى عشن تجربة الاغتصاب أو المذابح الجماعية فى البوسنة عن الله، ومعانى الاختبار والقناعة والرضا والخير والشر، بكل تأكيد تختلف عن مسلمة من مواليد جيل «زد» تعيش فى روسيا وتعمل كمؤثّرة على مواقع التواصل الاجتماعى فى مواضيع الموضة والأزياء!
لو افترضنا جدلًا أننا تمكنا من جمع ثلاثة من المسلمين عاشوا جميعًا فى بغداد، أحدهم فى العصر العباسى الأول، والثانى فى العصر العثمانى، والثالث فى بغداد اليوم، فرغم أن لغتهم هى العربية، وأرضهم هى العراق، ومذهبهم هو السنّة مثلًا، فإنّ احتمالات أن يتعرّف كلٌّ منهم على إسلام الآخر ويعتقد أنه نفس الإسلام الذى يمارسه، ضعيفة بدرجة كبيرة! لأنه، وكما حدث فى مثال المسيحية أعلاه، فقد حدث أيضًا فى الإسلام! فالرسالة، ربما فحواها نفسه لم يتغيّر، لكن طريقة فهم وممارسة هذا المتن، ومن ثم تخيّل الموضوع، تأثرت بالضرورة عبر 15 قرنًا مع التطورات السياسية والجغرافية والاقتصادية والنفسية والتكنولوجية!
وهكذا، يتكرّر الأمر ذاته بنفس الطريقة مع باقى الأديان، والمعتقدات، والأيديولوجيّات، والقناعات!
لكن، ما فائدة كل ذلك؟


أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر

 

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر