هفّت عليّ الهند هذه الأيام بشدة مع أنني لم أزرها إلا مرة واحدة، بدا وكأن أحد سحرتها الماهرين قد صنع لي حجاب محبة وطواه بين ضلوعي خلسة فإذا بأيامي وتجاربي وسفراتي تتوالى لكن شغفي بهذا البلد العجيب لا يفتر أبدا. في مثل هذا التوقيت قبل عدة أعوام زرت الهند، فتحتُ مسامي عامدة متعمدة لاستنشاق الروائح الكثيرة التي تشتهر بها الهند، من أول البخور النفاذ مرورا بالكاري والحنّاء والعطور وانتهاء بكل أنواع الزيوت. هذا المزيج العجيب من التوابل والعطور والدهون ربما لا يستطيبه كثيرون لكنني لست منهم بالتأكيد، وعندما دخلت إلى دلهي القديمة حيث الريكشة والطعام المكشوف والزحام الشديد أخذ عبير الخلطة السحرية إياها يتكثف ويتخلل مسامي أكثر.
**
غالبا قرأت عن الهند لأول مرة في المرحلة الابتدائية عندما وقع في يدي كتاب أنيس منصور "حول العالم في ٢٠٠ يوم" لكنه لم يترك في نفسي علامة، بدت لي الهند كأستراليا أو اليابان أو الفلبين أو سنغافورة أو أي بلد من البلاد الأخرى التي زارها المؤلف، في الواقع لم أكن كثيرة الشغف بأدب أنيس منصور، وكان ذلك يعود لأسباب مختلفة أهمها أن قلمه لم يكن ودودا مع المرأة ، لكن فيما بعد وبالتدريج أخذ انبهاري بالهند ينمو كما ينمو الجنين. لعبت الدراما الهندية في السبعينيات نفس الدور الذي تلعبه الدراما التركية حاليا في الدول العربية، وعمقّت الدراسة الجامعية معرفتي بالتجربة الهندية في الديمقراطية والتعايش بين القوميات والأديان، رنّت في سمعي أسماء غاندي و نهرو وكل الأسماء التي صنعت مجد الهند وسمعتها الدولية، وتحولت الهند من كونها درّة التاج البريطاني إلى كونها درّة حركات التحرر الوطني، توطدت علاقتها بمصر في ظل عبد الناصر وامتد تعاونهما من حركة عدم الانحياز إلى التصنيع العسكري المشترك. بالطبع لم تكن صورة الهند رائقة تماما، كانت هناك أحيانا صراعات داخلية وأخرى خارجية، لكن دلوني على دولة واحدة لها صورة بلورية لا خدش فيها. أخذت أقرأ عن مجتمع الهند أو مجتمعات الهند التي كتب عنها معظم من خدم فيها من الدبلوماسيين، وحفظت أغنية "سوتي الهندية" التي ألّفها صلاح چاهين وغنتها سعاد حسني عن زوجة "وفية" أحرقت نفسها بعد وفاة زوجها فتطاير رمادها وتلاقي مع رماد زوجها في الهواء. يأخذني تأصل قيمة الوفاء في التقاليد الهندية وإن لم أقتنع بأن التدليل على الوفاء يتطلب الانتحار، لكن هذا الجو الأسطوري عن أسرار الهند وطقوسها وتماثيلها وأبقارها وأحجارها وروائحها جذّاب بلا مدى.
***
كانت تنتظرنا عند مدخل الأوتيل في مومباي شابة مليحة تتلوى ضفيرتها السوداء كطريق جبلي خلف ظهرها ويلتف الساري المنقوش حول جسدها، الساري الهندي يشبه زي المرأة السودانية مع بعض الاختلاف في التفاصيل. رسمت الشابة الهندية نقطة حمراء صغيرة بين عينيّ كنوع من الترحيب فانتابني شعور أنني من أهل البلد، جميل أن تشعر بالمواطَنة حتى وإن كنت سائحا جئت وسوف تذهب. زالت النقطة الحمراء من جبيني مع أول نقطة ماء فسُحِب مني الباسبور الهندي ولم أكد أستعمله !
ليس الاستقبال وحده هو ما بقي في ذاكرتي عن زيارتي للهند فذكرياتها كثيرة، الصعود إلى أحد المعابد المرتفعة جدا في مومباي جالسة على محفّة يحملها رجلان مفتولا العضلات كما لو أني مهراچا هندي ملئ، أتذكر شخصية المهراچا المزيف التي لعبها أمين الهنيدي بخفة ظل متناهية في مسرحية "أصل وصورة " ليوهم رئيس التحرير بأنه أدلى بحديث لصحيفته وأضحك حتى تدمع عيناي، لا أتشا ليهان هاي لا كومستاي دالاي لا أتشلن هيلن.. جملة لن يفهم دلالتها إلا من شاهد هذه المسرحية، لا بأس في الحكاية من بعض التشويق. هذه التماثيل التي تجسد آثار الحضارة الهندية تُحوّل البلد الشاسع إلى متحف مفتوح تماما كما أن تجارة الرصيف في لوحات السيرما والمفارش والحلي والعطور تُحوّل شوارعها إلى بازار مفتوح يُغلب فيه الزبائن بالتأكيد فليس أشطر من باعة الهند وتركيا أيضا. التناقض بين غنى فاحش لا سقف له وفقر مدقع بلا قاع، بين من يدمنون الخرافة ومن يصدّرون التكنولوچيا ويغزون وادي السيليكون، بين من يلفون عمامة السيخ السوداء حول رؤوسهم ومن يضعون على رؤوسهم عمامة الأفغان. تاچ محل هذه التحفة المعمارية التي ترمز للتعايش الإسلامي - الهندوسي والذي لا يُسمح لك بالدخول إلى حرمها إن كان في حقيبتك توراة أو إنجيل أو مصحف فلا دين في تاچ محل ولا تاچ محل فيه دين، فقط هناك فرصة لتأمل روعة البناء والاستماع لحكاية الإمبراطور شاه چاهان مع زوجته المحبوبة التي لقبها بممتاز محل بمعني تاج القصر. أما هذه الحديقة الكبيرة الكبيرة في مومباي فحكايتها معي حكاية، دار الأوتوبيس السياحي حولها دورة كاملة وقال عنها المرشد السياحي إنها مكان العاشقين المختار، مفهوم ما قاله ولا شيء فيه يدعو للعجب فالأغصان المتشابكة توفّر ملاذات آمنة ثمينة، أما الصاعق في معلومات المرشد فهو أنه بينما يتحاب الفتيان والفتيات بين الأشجار، تتمدد على السطح جثامين الموتى من أتباع الديانة الزرادشتية حتى يأكلها الطير، فالدفن ممنوع في تقاليد هذه الديانة. كيف يحدث هذا، كيف يجتمع حب يولد بين ممرات الحديقة مع الموت على سطحها ؟ لو أن أحدا قدّم إجابة لهذا السؤال لوسعه أن يفسر سبب تقديس الأبقار في المعتقدات الهندية، لكن هكذا هي المعتقدات الدينية لا تفسير منطقيا لها بالضرورة لكنها نافذة.
***
هفّت عليّ ذكريات الهند لا أدري لذلك سببا محددا، ربما هو الحنين لأيام الهند التي مرت بسرعة البرق وكان الود ودّي أن تطول، ربما هي الانتخابات الأخيرة التي جرت فيها وتابعتها مع العالم كله، وربما هو الاشتياق لقيمة التعدد الآخذة في الانحسار بسرعة وثبات.