بين فصّ مخّى الأيمن وفصّ مخّ زوجى الأيسر جدال مستمر، فالفصّ الذى يقودنى ويجعلنى أعتمد على الحدس وأكره الروتين وأمشى وراء إحساسى وأميل إلى الخيال وبعضٍ من العشوائية- يختلف تمامًا عن الفصّ الذى يقوده هو ويجعله يفضّل التفكير العقلانى ويلتزم بالنظام الصارم ويعشق علم الحساب ولا يرتاح أبدًا للتغيير. هو يرى أن الأمر غير المنطقى ليس له وجود أصلًا حتى لو كان يراه بعينيه الاثنتين، وأحاول عبثًا أن أقنعه أن الحياة التى نعيشها يحكمها اللامنطق فلا يقتنع أبدًا. ومن هذا الخلاف العميق بين فصّى وفصّه تتولّد مواقف طريفة، أظن أنها موجودة بأشكال متنوعة بين الأزواج الذين تتوزّع الفصوص الحاكمة لسلوكهم ما بين اليمين والشمال.
• • •
يتعامل زوجى مع الثلاجة باعتبارها شكلًا هندسيًا عبارة عن متوازى مستطيلات، وبالتالى فإن كل الموجود على أرففها يجب أن يكون إما مربعًا وإما مستطيلًا. هذه الحقيقة عرفتها مؤخرًا بعد سنين طويلة قضيتها معه وأنا لا أفهم سرّ إصراره على تبريد الطعام المطبوخ فى عُلَب بلاستيكية داخل الثلاجة، ففهمى المتواضع كان هو أن العُلب لا تصلح إلا لحفظ البقالة، كما لم ألحظ طوال سنين الزواج التى تقترب من نصف قرن أن العُلب التى يختارها لا تكون إلا مربعة أو مستطيلة. ما كان يشغلنى بشكل خاص هو اهتمامه بنقل الطعام من حِلل التيفال الستانلس والجرانيت وأبرمة الأرز الفخّار البديعة إلى العُلَب البلاستيكية الضارة بالصحة، وكان هذا التصرف يغيظنى مرتين، مرة لأن الثلاجة بكل محتوياتها هى جزء لا يتجزأ من مجالى الخاص الذى لا أقبل التدخّل فيه، ومرة أخرى لأن الاستغناء عن حِللى وأوانيّ يجعلها عديمة الجدوى رغم أننى دفعتُ فيها دم قلبي. لكن حين زاد الأمر عن حدّه سألته قبل أيام عن سرّ استبداله العُلب بالحِلل فرّد عليّ بآخر ما كنت أتوقعّه: الثلاجة عبارة عن متوازى مستطيلات. أول ما تبادر إلى ذهنى كحرّيفة أفلام قديمة بمجرد سماع هذا الردّ- كان ذلك المشهد العبقرى فى فيلم"عيلة زيزي"عندما أخذ الباشمهندس فؤاد المهندس (أو سبعاوي) خطيبته سلوى سعيد (أو فوزية) ليبثها الغرام فى البلكونة. فإذا بالتخصّص الهندسى يغلب على سبعاوى ويروح يشرح لخطيبته تصميم الڤراندة من الناحية الهندسية وكيف أنه على شكل متوازى مستطيلات، وكل مستطيل مكوّن من أربعة أضلاع، وكل ضلعين متقابلين متساويين ومتوازيين. هذه هى كل علاقتى بمتوازى مستطيلات لا أكثر ولا أقل، فلقد قطَعت علاقتى إلى غير رجعة بجميع الأشكال الهندسية بعد سنة أولى ثانوى فى عام ١٩٧٢. لكن ما هى علاقة متوازى المستطيلات بترتيب أرفف الثلاجة؟ ردّ زوجى بأن كل ما هو مستدير يأخذ حيّزًا أكبر مما يلزم وفى هذا تقليص لمساحة الثلاجة... يا سلاااااام. كمثل أى زوجة مصرية أصيلة دافعتُ عن رؤيتى الخاصة لترتيب ثلاجتى على مزاجي، فلم تعد أمام زوجى فرصة لتطبيق نظرية متوازى المستطيلات إلا أثناء سفرى الذى عادةً لا يطول، ليعود بعد ذلك كل شئ كما كان عليه حاله بالضبط، ويرجع أبوك عند أخوك كما كانت تقول أمى الحبيبة.
• • •
فى منزلى تأخذ الكتب راحتها على الآخر، وأنا أرفض تحديد مكان إقامتها داخل المكتبة بشكلٍ حصريٍ لأن فيها من الأفكار الثمينة والجهد البحثى الرفيع ما يليق به الطيران والتحليق والانتشار. ولذلك فمن الطبيعى جدًا أن تجد صفوف الكتب رابضةً فوق عربة الشاى القديمة التى لا يستخدمها أحد، ومتناثرة على بعض مقاعد الصالون فى انتظار أن يزورنا ضيوف وهو قليلًا ما يحدث، ومحيطة بالفراش لتطرد الكوابيس والأرواح الشريرة، وكذلك فى البوفيهات التى أعتبرها اختراعًا لا لزوم له من الأساس. لكن هذا الانتشار الفكرى الواسع لا يتعامل معه زوجى بودّ شديد من منظور اقتناعه بالنظرية الوظيفية التى تقول إن كل شئ له وظيفة يؤديها، وليس من وظائف عربات الشاى والمقاعد وغرف النوم أن تستقبل الكتب. وبالتالى فعندما انهار ذات يوم رفّ البوفيه الحامل لعدد من المجلدات الضخمة لكبريات المراكز البحثية- اعتبر زوجى هذا الانهيار دليلًا دامغًا على صدق نظريته الوظيفية، وهذا حُكم منحاز وليس منصفًا، فلقد كان من الوارد جدًا أن ينهار نفس الرفّ بطقم الصينى مثلًا لأن الأمر يتعلّق بالوزن لا بالمحتوى، لكن ماذا نفعل فى الاختلاف بين الفصّين؟
• • •
أما عن إغلاق ضلفة دولاب الملابس بقطعة كلينكس بسبب الفوضى التى تضربه فى الداخل، فأنا من موقعى هذا أقّر بأنه أسلوب خاطئ فى التعامل مع الدولاب، ولا شك أنه سيأتى اليوم الذى يتوفّر لى الوقت والرغبة بما يمكننى من ترتيبه بشكلٍ مناسب والاستغناء عن قطعة الكلينكس. لكن على الجانب الآخر، فإن هذا التصرّف فيه قدر لا بأس به من الخيال، وهو لا يسبب ضررًا لأحد ولا لشئ اللهم إلا الدولاب نفسه. يضحك زوجى من قلبه فى كل مرة أقوم فيها بتغيير ورقة الكلينكس حين تتمزَق، ويقول إنه فى زمن الذكاء الاصطناعى الذى تُفتَح فيه الخزائن والموبايلات ببصمة العين هناك على الكوكب مَن يغلق الدولاب باستخدام الكلينكس. ومع أن هذا الكلام فيه شبهة تهكّم غير مريحة، لكن ردّى كان إنه عندما يكون دولاب غرفتنا من الجيل الخامس، ساعتها أفتحه وأغلقه ببصمة عيني.
• • •
الحياة بدون ترتيب فيها فطرة محببة، نعم نقع نحن أصحاب اليمين فى مآزق كثيرة لأننا لا نميل للخطط ولا للتخطيط، لكن عشوائيتنا لطيفة ولا تخلو من مفاجآت تكسر الرتابة وتغيّر الروتين. فيا أيتها الفوضى اللذيذة فى حياتى كم أننى أحبك.