تعكس حالة الهيستريا التى عصفت، ومازالت، ببعض دوائر النخبة المصرية حيال افتتاحية صحيفة نيويورك تايمز تجاه مصر ومن بعدها افتتاحية واشنطن بوست، جهلا مزدوجا بحقيقتين مهمتين: الأولى ترتبط بطبيعة الموقف الأمريكى الرسمى، ممثلا فى البيت الأبيض، مما شهدته مصر منذ الثلاثين من يونيو 2013، والثانية تتعلق بفهم موقف الإعلام الأمريكى مما تشهده مصر منذ ذلك الوقت.
إدارة أوباما هدفت منذ نهاية شهر مايو 2013 للوقوف على الحياد فيما تشهده مصر من تطورات متسارعة، إلا أنها فشلت تماما إذ ألقى الطرفان المتصارعان فى مصر، جماعة الاخوان المسلمين والحكومة المؤقتة، باللوم على واشنطن. وكان خطاب أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2013 واضحا إذ ذكر «أمريكا تعرضت لهجمات من جميع الأطراف فى هذا النزاع الداخلى، ففى آن واحد اتّهمت بدعمها للإخوان المسلمين وبتدبير إبعادهم عن السلطة. والواقع أن الولايات المتحدة تجنبت عن قصد الانحياز إلى أى طرف». لكن لماذا يتم إلقاء اللوم على الإدارة الأمريكية فى وقت اختارت إدارة أوباما فيه أن تقف على الحياد؟ ونظرة سريعة على مواقف واشنطن تؤكد أن إدارة أوباما تعاملت وقبلت ما نتج عن التفاعلات الداخلية فى مصر، ولم يكن لديها قدرة على التحكم فيها.
•••
وبعد إطاحة الجيش بالرئيس مرسى، تبلور الموقف الأمريكى واضعا فى الاعتبار عدة عوامل أهمها عدم تسمية ما حدث بمصر انقلاب، إذ يعنى ذلك تلقائيا وبمقتضى قانون أقره الكونجرس الأمريكى عام 1961 وقف كل المساعدات لأى دولة يتدخل فيها الجيش بالانقلاب على رئيس مدنى منتخب. ثانيا، ضرورة عدم انفراد القوات المسلحة بإدارة المرحلة الانتقالية، وضرورة وجود وجوه سياسية مدنية لها شعبية ومصداقية، وهو ما يسهل من مهمة واشنطن فى عدم تسمية ما حدث «انقلابا». ثالثا، عدم اتباع أى أساليب قمعية مع كبار قادة الإخوان المسلمين وغيرهم من القوى السياسية الإسلامية ورموزها. رابعا وأخيرا، الضغط على جماعة الإخوان المسلمين لكى يكونوا جزءا من العملية السياسية الجديدة. وتجاهلت الحكومة الانتقالية كل ما هدفت إليه واشنطن، ولم يكن رد فعل واشنطن قويا وإن كان مؤقتا، إلا بعد يوم 14 أغسطس 2013.
بعد ذلك قام وزير الدفاع الأمريكى بمهاتفة الفريق السيسى 17 مرة قبل فض اعتصامات رابعة والنهضة. وحاول البيت الأبيض جاهدا أن يجد حلا مقبولا من الجيش ومن جماعة الإخوان المسلمين للخروج من الأزمة المصرية. وتحدث تليفونيا الرئيس باراك أوباما مع ولى عهد أبوظبى الشيخ محمد بن زايد آل نهيان صاحب العلاقات الجيدة مع الحكومة المصرية، وتحدث أيضا مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثانى، الذى له علاقات ونفوذ وسط جماعة الإخوان المسلمين، لمناقشة المخاوف بشأن أعمال العنف التى شهدتها مصر فى أعقاب عزل الجيش للرئيس محمد مرسى، إضافة للمخاوف من وقوع أعمال عنف أخرى. وبينما تناقلت شاشات الفضائيات صور فض الاعتصامات، اتصل وزير الدفاع الأمريكى بالجنرال السيسى محذرا إياه بأنه قد وضع عنصرا مهما من علاقة مصر وأمريكا العسكرية فى خطر، وهو ما كرره وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى لنظيره المصرى الأسبق نبيل فهمى. ثم أعلن الرئيس أوباما إلغاء مناورات النجم الساطع من دون أن يذكر أى شىء عن المساعدات لمصر، ثم أكد بيان لوزارة الخارجية الأمريكية يوم 9 أكتوبر 2013 على تجميد المساعدات العسكرية.
•••
لم يترك ما سبق العاصمة الأمريكية إلا أكثر انقساما بين فريقين الأول لم يمانع فى الإطاحة بمرسى واستهداف جماعة الإخوان المسلمين بعد ذلك، وفريق آخر يرى ما حدث انقلابا وعليه يجب أن توقف واشنطن كل المساعدات وألا تتعامل مع حكومة انقلاب. وبين الفريقين تأزم موقف الرئيس الأمريكى فى الموقف الواجب اتخاذه. إلا أن انقسام واشنطن ظهر جليا بين مجلسى الكونجرس. مجلس النواب ذو الأغلبية الجمهورية مال لدعم موقف الجيش، وتفهم مبررات تدخله، فى حين مال مجلس الشيوخ، ذو الأغلبية الديمقراطية لإدانة ما جرى، خاصة بعد اتباع النظام الجديد سياسات قمعية تعدت جماعة الاخوان المسلمين، والتضييق على حرية الرأى والتظاهر والمجتمع المدنى. وظهر الانقسام الأمريكى واضحا بصورة أكثر وضوحا فى حالة الإعلام الأمريكى. الاعلام الليبرالى المهم مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز ترى ما حدث انقلابا واضحا على رئيس منتخب. ولم يشفع تدنى شعبية الرئيس محمد مرسى خلال أسابيع حكمه الأخيرة كى تغير هذه الصحف من موقفها. ويبدو أن تأثرهم بالتجربة الأمريكية كان مسيطرا عليهم فى فهم الشأن المصرى. فمن المفهوم أن انخفاض درجة الموافقة على أداء الرئيس لما دون الثلاثين بالمائة مثلا لا يتبعه أى تدخل من البنتاجون لتغيير الرئيس، ويتم الانتظار للجولة القادمة من الانتخابات. الإعلام اليمينى المحافظ مثل وول ستريت جونال وواشنطن تايمز وقناة فوكس دعمت الجيش المصرى وتدخله بصورة عامة.
وما كتبته نيويورك تايمز وواشنطن بوست يعبر بوضوح عن غضب التيار الليبرالى الأمريكى على حدوث مقابلة بين أوباما والسيسى، فى وقت يروا أن هناك ردة كبيرة جدا فى مجال الحريات والحقوق داخل مصر.
•••
ومع ظهور تنظيم داعش من ناحية، وحدوث أزمة غزة من ناحية أخرى، تأكد لواشنطن أن الحياد تجاه مصر وحكامها الجدد ليس بديلا يمكن من خلاله خدمة مصالحها الاستراتيجية. من هنا جاء لقاء أوباما والسيسى تطورا طبيعيا لتدهور الأوضاع فى المنطقة، وأنهى رسميا الحياد بعودة نمط العلاقات الخاص بين الدولتين. وجاء اعلان قائد القوات الجوية المصرية، عن أن «زيارة الرئيس السيسى إلى الولايات المتحدة أنهت صفقة طائرات الأباتشى (التى كانت رمزا للغضب الأمريكى تجاه نظام وممارسات النظام المصرى الجديد) وسوف تسلم الطائرات قريبا» ليؤكد من الجانب المصرى ان العلاقات عادت وأن الحياد الأمريكى انتهى. نفس الموقف خرج من الجانب الأمريكى رسميا من خلال تصريحات جون كيرى فى القاهرة منذ أيام بتأكيده أن مصر تعد شريكا رئيسا فى المنطقة، مشددا على أن دعم واشنطن القوى للإصلاحات الجارية فى مصر.