محمد وأحلامه الصغيرة - خولة مطر - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 3:37 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محمد وأحلامه الصغيرة

نشر فى : الأحد 20 يناير 2019 - 8:50 م | آخر تحديث : الأحد 20 يناير 2019 - 8:50 م

رشت السماء خيراتها على شكل ثلج ناعم يبدو وكأنه قطع من القطن المصرى الأصيل تسقط تملأ الأفق فتحجب بعض الرؤية وتخلق غلافا ناصع البياض لصباح هذه المدينة.. ما إن تسقط حبة الثلج على اليابسة حتى تذوب بدفء الأرض.
والناس تتحرك سريعا مرتدية كل ما تملك ليحميها من قساوة هذا الموسم شديد البرودة رغم أنه ليس كل البرد يبعث على الاكتئاب، بل كثيرا منه يرسم مشاهد جميلة ويأتى بالتنوع الذى هو حتما مصدر لبهجة خاصة، فقط السكينة واللون الواحد هما من يحولان الأيام إلى لحظات طويلة من الحزن.
***
يمتلئك إحساس بالبهجة المبهرة عندما تشاهد صور عواصف الرمل فى الأرض الواسعة التى هى وطنك الكبير كما سمعت فى تلك الأغنية وأنت طفل فى بيت واسع بغرف كثيرة حيث هى مسكن كل العائلة.. غرفة أو غرفتان لكل عائلة وحوش بمرجيحة «دورفه» وحظيرة للأرانب على سطح المنزل يلعب معها الأطفال بمختلف أعمارهم، وآخرون يربون الحمام أو الطيور على سطوح المنازل التى تتحول فى الصيف إلى غرفة نوم واسعة بسرائر مصطفة الواحدة جنب الأخرى حيث السمر ومراقبة النجوم فى سماء الخليج التى كانت أكثر صفاء من الزلال. كل ذلك قبل أن تختنق مدن الخليج بالمكيفات.
فى تلك المراحل البعيدة كان للخليج فصوله أيضا، فلم يكن ذا فصل واحد فقط.. صيف حار طوال العام مع تقطعات بسيطة من التحول إلى درجات إنسانية! كان هناك شتاء حتى ولو قصير وصيف وما بينهما.. وبعض الشتاء يشهد تساقط الأمطار حتى إن الأطفال يخرجون للشوارع ويغنون «طق يا مطر على قطر والشمس طالعة»! ولم تكن الشوارع تطفح كما الآن ولا تثور البواليع فتقذف بأوساخها على الطرقات.. وفى شتاءات أخرى شهد الخليج تساقط البرد حيث يخرج الناس ويجمعون البرد وبعض الأطفال يأكلونه وكأنه آيس كريم من السماء!
***
وعرفت المدارس مع بداية فصل الشتاء حملة التبرعات الشتوية فى المدارس، حيث يبدأ الأطفال التربية على أخلاقيات التضامن والتعاطف مع زميلاتهم وزملائهم من هم أقل حضا ولا يملكون القدرة على شراء ملابس الشتاء ومستلزماته.. كانت المدارس للتربية والتعليم وبالفعل ساهمت العديد من المعلمات والمعلمين فى غرس مبادئ وقيم وأخلاق لا يزال الكثيرون منا يتذكرونهم وهن بالخير.. لم يكن فى تلك الحملات شىء مما يجرى الآن على يد الكثير من الجمعيات الخيرية والتى تجمع المبالغ والملابس للمحتاجين ولكن دون صون لكرامتهم واحترامهم لذاتهم.. فى تلك الأيام كانت الحملات تبدو تضامنية وليست بحاجة لمشاهد وصور الاستعطاف ونشر الكآبة والبؤس الذين تقوم بهم معظم الجمعيات الآن ليس فقط فى الخليج بل فى كل الوطن العربى.. فلا تنسوا شهر رمضان والإعلانات التليفزيونية المقززة لجمعيات لا تفقه فى معنى التضامن بل تحولت إلى شكل من أشكال التجارة بمأسى البشر وخاصة من هذه الجمعيات تلك التى تحمل صبغة دينية مع شديد الأسف! وكأن الدين ارتبط لديهم بكثير من الكأبة والتخويف والتهديد.. نفس ذاك الدين التى قالت معلمة الرابع الابتدائى إنه دين يسر وليس دين عسر.. وإن الله غفور رحيم.. وكثير من تلك العبارات التى تبعث على التسامح والمحبة، فيما شيوخ الدين احترفوا «أفلام الرعب» والتخويف والتسطيح والتجهيل!
***
تبدو هذه الذكريات البعيدة متلاصقة مع مشاهد الثلج فى هذه المدينة الحداثية والبعيدة جدا عن اللمسات الإنسانية.. يسقط المساء سريعا فى شتائها ويطول الليل أطول فأطول ومعه تزداد درجات الحرارة فى الانخفاض والمؤشرات على الألواح المعدنية عند كل رصيف تشير إلى طقس شاق وبرد قارص.
***
يقف محمد، الشاب العربى المقبل حديثا، عند عربة الفواكه والخضراوات فهو مسئول «نبطشية» الليل من السابعة إلى السابعة.. وهو المقبل من دفء حضن أهله فى بلده التى يمتاز كل ناسها بالدفء المعتق فى تلك الحضارة البعيدة.. يقف وحيدا لا رفيق له سوى كثير من أحلامه التى حملها كما حقيبته الصغيرة ببعض الملابس وصور والدته وعائلته هناك فى بلدته التى تبدو اليوم وكأنها فى كوكب آخر.. من أحلامه ألا يطول هذا الوقوف الليلى عند الأرصفة المتجمدة وأن يتحول إلى سائق «أوبر» هذا حلمه المتواضع جدا أن يتحول من بائع للخضراوات إلى سائق لسيارة أجرة! فقط لا غير رغم أنه يمتلك بعض التعليم وكثيرا من الأدب واللطف.. عندما تقسو عليه الطبيعة فى الليل وتسقط السماء كتلها المتجمدة، يحتمى هو فى مدخل العمارة المجاورة.. عينه على عربته وعين أخرى تريد أن تغفو فى حضن كوب من الشاى المخمر!
محمد لا يرى فى هذا الثلج الأبيض كقطن بلده أى جمال وهو يتساقط من حوله حتى يغطى الأرض وما عليها وحتى تتجمد أطرافه وهو يفقد شيئا فشيئا الإحساس بها.. هو الذى لم يتصور أن فى بلد الأحلام ينام البشر على الأرصفة ويتجمدون حتى يأتى عامل النظافة ليكنس الأرصفة وما عليها، فيصبحوا هم رقم آخر من سكان الأرصفة، ضحايا شتاء المدينة وقسوة التحضر والتمدن السطحيين!

كاتبة بحرينية

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات