يشكّل نموذج (سبايكنج برين 1.0) SpikingBrain 1.0 منعطفا جديدا فى مسار تطور الذكاء الاصطناعى فى الصين، إذ يعكس التوجه نحو بناء أنظمة ذكاء اصطناعى تحاكى طريقة تفكير الإنسان. ويقوم هذا النموذج على معالجة عصبية مستوحاة من الإشارات الكهربائية فى الخلايا العصبية، ما يمنحه سرعة استثنائية تتجاوز النماذج التقليدية بأكثر من مائة مرة مع كفاءة أعلى فى استهلاك الطاقة. والأهمية الحقيقية للنموذج لا تكمن فقط فى قدراته التقنية، بل لأنه يعتمد على رقاقات محلية بالكامل، وذلك ضمن مساعى بكين لتقليص اعتمادها على المنظومات الغربية.
• • •
كشفت الصين عن هذا النموذج الفريد من نوعه خلال شهر سبتمبر الماضى 2025، وتهدف من خلاله لتحقيق عدد من الأهداف التى تتمثل فيما يلى:
1- تعزيز الاستقلال التكنولوجى الصينى: تم تطوير النموذج اللغوى الصينى (SpikingBrain 1.0) بواسطة فريق يقوده «لى قوهتشى» و«شو بو» فى معهد الأتمتة التابع للأكاديمية الصينية للعلوم. وقد تمّ تدريب النموذج باستخدام مئات من وحدات معالجة الرسومات (GPUs) التى وفرتها شركة MetaX لصناعة الشرائح ومقرها شنغهاى، وهو ما يعنى قدرة الصين على تطوير نموذج بمكونات محلية بعيدًا عن منتجات شركة (Nvidia) الأمريكية.
2- ترسيخ موقع الصين فى مجال الذكاء الاصطناعى العصبى: يُعد الذكاء الاصطناعى العصبى (Neuromorphic AI) فرعا من الذكاء الاصطناعى الذى يعمل على تقليد طريقة عمل الدماغ البشرى فى معالجة المعلومات. وقد ظهر هذا الفرع فى أوائل الثمانينيات بالولايات المتحدة الأمريكية، وأخذت الشركات التكنولوجية الأمريكية فى تطبيقات أطروحات هذا الفرع فى تصنيع عدد من شرائحها الإلكترونية. وقد أوضح تقرير صادر عن مؤسسة (Research and Markets)، والذى جاء تحت عنوان «التقنيات الإلكترونية المتقدمة للذكاء الاصطناعى 2026-2036»، أن الصين قد أصبحت واحدة من أهم القوى الصاعدة فى مجال الذكاء الاصطناعى العصبى.
3- سعى الصين إلى قيادة التحولات التكنولوجية الجديدة: أكد تقرير مؤسسة (Research and Markets)، الذى يرصد التحولات التكنولوجية المتوقعة للفترة ما بين 2026 و2036، أن العالم يتجه نحو نقطة تحول حاسمة فى الذكاء الاصطناعى، إذ أصبحت المعالجات التقليدية غير قادرة على تلبية المتطلبات الجديدة، وذلك على غرار التدريب الضخم للنماذج اللغوية الكبيرة، وتحليل البيانات الفورية للأجهزة والمعدات ذاتية القيادة، هذا بالإضافة إلى القيود الموضوعة على الأجهزة المحمولة وأجهزة الاستشعار. ولذلك، يجرى الانتقال إلى تطوير أنظمة تكنولوجية أكثر تخصصا، وذلك من خلال التوسع فى مجالات علوم حوسبة الذكاء الاصطناعى العصبى، والحوسبة الكمية. وعلى الرغم من أن القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة، ما زالت تتمتع بالريادة فى هذا الميدان؛ إلا أن الصين أظهرت فى السنوات الأخيرة من خلال برامجها الجامعية وأبحاثها وإنتاجها العلمى فى هذه المجالات، أنها تسعى للتحول من مقعد المتفرج إلى موقع القيادة.
• • •
لا يزال نموذج الذكاء الاصطناعى الصينى المطروح فى مرحلته التجريبية، حيث صمم الباحثون نسختين: نسخة تحتوى على 7 مليارات مُعامل، وأخرى أكثر تقدما تضم 76 مليار مُعامل للتجربة والاستخدام من قبل كلٍ من المتخصصين والعامة. وقد يكون لمثل هذا النموذج عدد من التداعيات على المستوى التكنولوجى والسياسى والاقتصادى، وذلك على النحو التالى:
1- زيادة وتسريع وتيرة السباق التكنولوجى الصينى الأمريكى: منذ عام 2019، تتمتع الولايات المتحدة بتفوّق واضح فى مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى. فقد أنتجت الشركات الأمريكية أكثر من نصف النماذج الرائدة فى مجال الذكاء الاصطناعى. كما تمتلك الولايات المتحدة أكبر عددٍ من المتخصصين فى الذكاء الاصطناعى، بنحو 500 ألف خبير، بالإضافة إلى أكبر قدرة على استيعاب مراكز البيانات فى العالم، والتى تبلغ 45 جيجاوات (GW). ومع ذلك، فإن تفوّق أمريكا ليس مضمونا، حيث تعمل بكين على تقليص الفجوة القائمة بينها وبين واشنطن، وذلك من خلال الاعتماد على استراتيجية التخطيط المركزى، بدلا من دفع القطاع الخاص لقيادة التطوير فى هذا الميدان على غرار ما هو قائم فى الولايات المتحدة. وقد ركزت استراتيجية التخطيط المركزى على الكفاءة والاستخدام الدقيق والفعال للموارد المحدودة المتاحة. كما ضخّت الحكومة ما يقارب 132 مليار دولار أمريكى فى قطاع الذكاء الاصطناعى منذ عام 2019، وتستثمر سنويا نحو 60 مليار دولار فى البحث والتطوير المؤسسى. ونتيجة لذلك، تمتلك الصين 15 نموذجا من أصل 40 نموذجا رائدا عالميا، وتوظف 18% من كبار الباحثين فى المجال، كما تمتلك أكبر ثانى سعة عالمية لمراكز البيانات، بسعة تقدر بحوالى 20 جيجاوات. وهو ما ساهم فى تحقيق الصين نتائج مرضية من خلال نموذج (DeepSeek)، أو النموذج اللغوى الصينى الجديد (SpikingBrain 1.0)، والذى يعد بمثابة جيل جديد من الذكاء الاصطناعى الذى يتجاوز فى عمله آليات الذكاء الاصطناعى التقليدى.
2- تحول فى معايير التفوق التقنى فى الذكاء الاصطناعى: يعتمد النموذج اللغوى الصينى (SpikingBrain 1.0) على الجمع بين آلية الانتباه الهجينة الخطية (Hybrid-linear attention)، والتدريب القائم على التحويل (Conversion-based training)، والخلايا العصبية النبضية (Spiking neurons)، وهو ما يجعله قادرا على تقديم الأداء نفسه الذى اعتادت تقديمه النماذج اللغوية الغربية الضخمة القائمة على هندسة المحولات (Transformer architecture)، بسرعة وكفاءة غير مسبوقة. وعلى الرغم من أن الإسهامات الحالية والمستقبلية التى يتوقع أن تقدمها النماذج الغربية تمثل دفعة قوية فى هذا الميدان، إلا أنها تعتمد على القوة المفرطة فى الحساب، وهو ما يجعل استمراريتها على هذا النحو صعب للغاية، خاصة مع ارتفاع تكاليف الحوسبة والطاقة بشكل هائل. ومن هنا تظهر أهمية وقوة النموذج الصينى الجديد، الذى يمنحها ميزة استراتيجية على المدى الطويل.
3- تقليص هشاشة سلاسل الإمداد المرتبطة بالغرب: يظهر التعاطى الصينى الحالى مع الحرب التكنولوجية التى تقودها واشنطن ضد بكين، أنها قد تعلمت من سنوات المنافسة السابقة. وتتمثل أبرز السياسات الصينية فى هذا الميدان، فى تطوير تقنيات محلية متقدمة فى مجال الذكاء الصناعى، وصناعة السيارات الكهربائية «BYD»، وتعزيز الاكتفاء الذاتى التكنولوجى. هذا بجانب فرض رسوم جمركية مضادة، وحظر تصدير المعادن النادرة الحيوية لصناعة الأسلحة الأمريكية، ضمن استراتيجية «صُنع فى الصين 2025». وتكمن أهمية النموذج اللغوى الصينى (SpikingBrain 1.0)، فى أنه لا يعتمد على رقائق الشركة الأمريكية (Nvidia)، فى ترجمة فعلية لاستراتيجيتها القائمة على زيادة الاستقلال الذاتى، وتقليل حجم الضرر الناتج عن إمكانية عزلها عن سلاسل التوريد التكنولوجية العالمية، وذلك على غرار الحظر الذى طبقته الولايات المتحدة على تصدير شرائح الذكاء الاصطناعى المتقدمة إلى الصين سابقا. فقد تم تدريب النموذج وتشغيله بالكامل على أجهزة صينية الصنع، مما يجعله إنجازا استراتيجيا هاما يعزز من استقلال الصين التكنولوجى فى مجال الذكاء الاصطناعى.
4- إمكانية توظيف النموذج فى مجالات مختلفة متقدمة: أظهر النموذج اللغوى الصينى (SpikingBrain 1.0) تفوقا فى التعامل مع التسلسلات فائقة الطول، مما يجعله مناسبا لتطبيقات مثل تحليل الوثائق القانونية والطبية، وفيزياء الجسيمات عالية الطاقة، ونمذجة تسلسلات الحمض النووى (DNA)، وذلك على حد قول أحد أبرز الباحثين الصينيين الذى قاموا على عملية تطوير النموذج.
ختاما، رغم أن نموذج SpikingBrain 1.0 يعكس إنجازا علميا بارزا ويؤكد تسارع الصين نحو تحقيق استقلالها التقنى فى مجال الذكاء الاصطناعى، فإن طريقها لا يزال محفوفا بالتحديات. فنجاح التجارب الأولية لا يضمن انتقالا سلسا إلى التطبيق التجارى واسع النطاق، خاصة فى ظل التنافس الحاد مع الولايات المتحدة والقيود المستمرة على الشرائح المتقدمة. ومع ذلك، فإن الجمع بين الابتكار المحلى والنظم المتقدمة يمنح بكين فرصة حقيقية لإعادة تشكيل قواعد السباق العالمى فى الذكاء الاصطناعى، شريطة أن تواصل الاستثمار فى البحث العلمى وتوسيع نطاق التجريب التطبيقى.
أسماء الصفتى
موقع إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية
النص الأصلى: