المَوقِع - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 21 يونيو 2025 3:11 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما توقعاتك لمعارك إسرائيل مع إيران؟

المَوقِع

نشر فى : الجمعة 20 يونيو 2025 - 8:25 م | آخر تحديث : الجمعة 20 يونيو 2025 - 8:25 م

ضَربَت إيران منشآتٍ ومواقع ذات أهمية يحتلها العدو الإسرائيلي. سَهَر كثير الناس مع الضربات، يطربون لأصوات الانفجارات، ويستعذبون الشَّرر وألسنة اللهب المندلعة هنا وهناك، ويتحمَّسون مُطالبين بالمزيد، متجاوزين ما كان من شِقاق. مَوقِع وثانٍ، ضربة وأخرى؛ ردُّ يشفي بعضَ الغليل ولو أعقبه انتقامٌ واسع مُتعدّد الأقطاب، وقد تأكد للمتفرجين أن بالإمكانِ ما اتحدوا درءَ العدوان، وانتزاعَ الحقوقِ، واستردادَ شيءٍ من الكرامة المُراقَة على صفحة الأرض.

• • •

المَوْقِع اسمُ مكان من الفعل وَقَعَ، الفاعلُ واقع ومُؤنثه "واقعةٌ"؛ وهي مُفردة نستخدمها للتدليل على حدثٍ لافت، أما المصدر فوَقْع بتسكين القاف وكذلك وُقوع، وإذا راج الحديث حول وَقيعةٍ بين الناس؛ فمحاولةٌ للدسّ والتخريب وتشويه العلاقات المُستقرة التي يحظون بها.

• • •

الإيقاع هو الصَّوتُ المُنتظِم، المُتواتر، الذي تفصِله مَسافاتٌ زمنيةٌ مُحدَّدة، فيُرشد الأذنَ ويُمسِك باللحنِ ويَضبطه. لا رَقص دون إيقاع ولا غِناء دون إيقاع، وللحياة نفسِها إيقاع مَهمًا بدت مُضطرِبة عشوائيَّة. في فيلم "الراقصة والطبال" يتبدَّى وَلع الفنان بأداته؛ الطبلة التي يراها أهمَ عنصُر في الفقرة الفنية ويرى ما سواها هُراءً؛ أما الجُّمهور فيظن ولا شكَّ أشياءً أخرى ويَرغب في مُتع تداعب الأعيُنَ لا الآذان. قصَّةُ الفيلم لإحسان عبد القدوس، والبطولة لأحمد زكي ونبيلة عبيد والعملاق عادل أدهم، أما الإخراج فلأشرف فهمي، وقد عرض في منتصف الثمانينيات.

• • •

بالتوازي مع الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي رشَّحها المُحللون للتوسُّع والتمدُّد؛ ساد الهزلُ صفحاتِ التواصُل الاجتماعية، وراح المُتواصِلون يتندَّرون بالعبارة الشهيرةِ التي حفظها أغلبُنا في مراحِل الدراسة: "تحتلُّ مِصر مَوْقِعًا جغرافيًا متميزًا". مقَّصد الكلماتِ التي ألفنا ترديدها هو السَّواحل الطويلة ذات الطبيعة السَّاحرة، والنهر الذي يشقُّ التربةَ ويُكسبها الخُصوبة، والمناخ المُعتدِل الذي طالما وفرته التضاريسُ واتجاهاتُ الريح؛ أما المِزاح حول الأمر فقد توالى على خلفيةِ القلاقِل المُتصاعدة التي راحت في الآونة الأخيرة تُحيط بنا، والحروب التي اشتعلت من حولنا؛ شرقًا وغربًا وجنوبًا.

• • •

يتحدَّد مَوقِع الفرد وَسط الآخرين وفقًا لعوامِل متباينة؛ منها أحواله الاقتصاديّة والبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها والثقافة التي ينتمي إليها. ليس المَوقِع بثابتٍ على الدَّوام، فقد تتبدَّل الظروفُ والأوضاع، وقد يحدث حِراك مفاجئ؛ يهبط بمَن كان في مَرتبةٍ عليا، ويَصعد بمَن استقرَّ في مَرتبةٍ دنيا؛ فإن انتفى المنطق وهانت الأسباب؛ انعدمت الرؤية المستقبلية وتلاطمت الأمواج.

• • •

بعض الأحيان يحدث ما يسوء وما لم يكن في الحسبان؛ فيهلع الناس وربما يصيح أحدهم: "يا وَقعة سودة". الوَقعةُ اسمُ المَرَّة الواحدة من الفعل وَقَع، أما السَّواد فجرى العرف بأن يُدللَ على الأذى أو الشرّ. الأسوَد في الملابس لونُ الحِداد، واليومُ الأسوَد يحمل في العادة ذكرى تعيسة، وإذا اسوَدَّت الوُجوهُ فقد تغيَّرت لشديد الخِزي أو الخجل، ووَصف حدث بأنه أكثر سَوادًا من قرن الخرُّوب؛ كناية عن شدة قتامته، وإذ تتطرق الأغنية إلى يوم ردَّ المظالم؛ فإنها تصفه أيضًا بالألوان وتقول عنه: "أبيض على كل مظلوم، أسود على كل ظالم".

• • •

إذا خرَّ الواحد فاقدًا وعيه قيل: وَقَع من طُوله. قد يجد الشخصُ الواقع مَن يردُّ له الوعيَ ويأخذ بيده فيساعده على النهوض، وقد يبقى طريح الأرض إلى أن يصلَ المسعفون، ويحق عليه ساعتها القولُ المأثور: "وقع ولا حد سمَّى عليه".

• • •

أسس محمد علي باشا جريدة الوقائع المصرية في عشرينيات القرن التاسع عشر، وتعد أقدم جريدة رسمية في الشرق الأوسط، وقد تعاقب عليها الطهطاوي والشيخ محمد عبده وكانت تطبع باللغتين العربية والتركية إلى أن ألغيت الأخيرة، ولم تزل تصدر حتى يومنا هذا من المطابع الأميرية.

• • •

إذا اتخذ الواحد قرارًا دون مُشاوره، أو بمخالفة رأي الشريك، ثم أعلمه به بعد التنفيذ؛ فقد وضعه أمام الأمر الواقع. رضاؤه يعني الاستسلام، أما الغضب والرفض فقد لا يغيران مما جرى شيئًا. سياسة الأمر الواقع مُزعجة ما تقلصت سبلُ ردعها وانعدمت وسائلُ منعها، وفي عملية الاستيطان التي يقوم بها بنو صهيون على أرض فلسطين نموذج فاضح ومشين.

• • •

قد يأخذ الخيالُ بصاحبه بعيدًا عن أرض الواقع؛ فيهيء له ما يستطيب ويعطيه من السعادة ما يطرب له؛ لكن الأوهام تترك ما تلاشت غصة، ولا تستبقي غير المؤلم المؤسي؛ فإن استتب العجزُ عن تغيير المُؤسفات واستقرَّ اليأس في الوجدان؛ كان البقاءُ في حَيز المُمكنات خيرٌ وأسلم، وكثيرًا ما يقال في مديح الشخص الواقعي إنه لا يترك لأحلامه مساحة كبيرة؛ بل يقصد الممكن الحاضر والمتاح.

• • •

وضع المؤرخ المصري محمد ابن إياس نصًّا بديعًا أسماه: "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، وقد عنيَ فيه بذكر العجيب والشارد من الأخبار، وضمَّنه أجزاءً من تاريخ مصر؛ فوصف أحوال الدولة المملوكية بحلول نهايتها وكذلك بعضَ أحوال الدولة العثمانية، وقد حُققت المخطوطةَ ما بين ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، وصدرت لاحقًا في ستة مجلدات.

• • •

مَوقع الجريمة هو مكان ارتكابها، وموقع العمل هو الحيز الذي يجتمع فيه العمال، والموقع العسكري منطقة يُحظَر في الغالب الاقتراب منها، أما موقع المسئولية فليس بكيان ماديّ ملموس؛ لكنه الأعظم أهمية من كل ما سبق. يحظى الواحد بمنصب ذي وزن وثقل؛ فتلقى على عاتقه مهامٌ جِسام، يُعاقب إن أخفق في أدائها وينال الإشادة ما أحسن توليها؛ أو على هذا يفترض أن تسيرَ الحياة.

• • •

حين يتعرض شخص لأزمة ويتصور الناس أنها النهاية قادمة لا محاله، ثم يفاجئون وقد جاءت سقطته بفائدة؛ فإنهم يعلقون ساعتها قائلين: "يقع واقف" والمعنى أنه قادر على تحقيق مكسب ما ولو ساءت الظروف، أما إن بدا شديد التأثر بما جرى، قالوا له محاولين مساعدته على القيام من الكبوة: "ما يقع إلا الشاطر"، وفي هذه العبارة إقالة من عثرة، وتطييب للخاطر، وإعادة للثقة في النفس، وبثّ للأمل في قادم أفضل.

• • •

تُعرّف معاجمُ اللغة العربية المَوْقَعَةَ بأنها موضع الوقوع، وهي أيضًا الصَّدمة أو المعركة؛ وفي التاريخ منها الكثير وتُذكر على سبيل المثال موقعة "الجمل" التي مثلت حدثًا مدهشًا في ثورة العام ألفين وأحد عشر، ولم تزل في الأذهان مشاهد عبثية لدخول الدَّواب وسط المدينة؛ وكأن الزمن قد عاد بالثوار قرونًا إلى الوراء.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات