ذكر الكاتب سعد محيو فى بحث قام بإعداده لمنتدى التكامل الإقليمى فى بيروت التطورات التى يشهدها العالم اليوم من الصعود الصينى، والتمهيد لثورة تكنولوجية رابعة، والعولمة الرأسمالية؛ مشيرا إلى تأثير تلك التطورات على غروب شمس الإمبراطورية الأمريكية ورسم ملامح نظام عالمى جديد... نعرض من البحث ما يلى:
لا نبالغ كثيرا إذا ما قلنا إن العالم ربما يشهد الآن، بدء أفول الزعامة الأمريكية المنفردة فى العالم، وربما أيضا الإمبراطورية الأمريكية نفسها، كما رحلت قبلها شقيقتها الأنجلوساكسونية العريقة.
ربما يقول أحد هنا: هذا مجرد تفكير رغائبى، خاصة أن الولايات المتحدة لا تزال أضخم قوة عسكرية فى العالم بميزانية تبلغ نحو تريليون دولار، أى ما يوازى موازنات كل الدول الكبرى مجتمعة. وهى أو ربما قريبا ثانى أكبر اقتصاد فى العالم بعد الصين. وهى تضم أهم الجامعات ومراكز الأبحاث الاستراتيجية الدولية، وأكثر من 8000 قاعدة العسكرية علنية وسرية فى كل بقاع ومحيطات وبحار العالم، وقوة ناعمة تسيطر عمليا على جل الإنتاج الإعلامى والسينمائى فى العالم، وديموغرافية متوازنة وقدرة متجددة على الابتكار والإبداع. مع ذلك، ما نقول ليس تفكيرا رغائبيا البتة.
فأهم جيوبوليتيك الحادى والعشرين وهو صعود الصين، وعودة القَبَلية السياسية واحتمال انهيار الديمقراطية الليبرالية، والإرهاب على أنواعه، وتصاعد التنافس بين الدول الكبرى، كل ذلك قد لا يكون مهما كثيرا. فالعالم اليوم يقف عند فجر الثورة التكنولوجية الرابعة، وتأثيرها سيكون أضخم بكثير من كل الثورات السابقة مجتمعة.
هذه الثورة لم تبدأ بعد حقيقة، على رغم كل ما نراه الآن من إنجازات سحرية تكنولوجية. الثورة ستبدأ حين يستكمل تطوير الذكاء الاصطناعى، حيث تم الآن تطوير ذكاء مساو لذكاء الدماغ البشرى. وتشير التقديرات إلى أن الذكاء الاصطناعى سيكون قادرا العام 2060 على القيام بنحو 50 بالمئة من المهام البشرية (الآسيويون اختاروا سنة 2045). وحينها سيكونون قادرين على الطبخ وكتابة الروايات المشوقة وإجراء العمليات الجراحية. كما أنهم سيكونون أسرع بكثير، ولا يتعبون. إنهم سيدفعون مئات وربما مليارات البشر إلى البطالة.
لا تخطئوا: الثورة الرقمية ستكون أضخم ثورة جيوسياسية فى التاريخ البشرى. لقد غيّرت الثورة الصناعية العالم، لكنها لم تفعل سوى الحلول مكان العضلات البشرية وبقيت الحاجة للأدمغة. لكن الثورة الرقمية ستحل مكان الأدمغة، وستغيّر وجه التاريخ كما عرفناه طيلة العشرة آلاف سنة الماضية.
وثمة نقطة ثانية لا تقل أهمية، وهى ترسخ سيطرة العولمة عبر الشركات الكبرى متعددة الجنسيات على كل مفاصل الاقتصاد العالمى والمعلوماتى، واستخدامها للثورة التكنولوجية لتعزيز هذه السيطرة عبر تفكيك بنى المجتمعات البشرية ونسف فضاءاتها الاجتماعية والاقتصادية والمالية، موظّفة فى ذلك جيوشا حقيقيا فى الإعلام والثقافة والأكاديميا والسياسة و50 ألف منظمة غير حكومية والمؤسسات الدولية وأجهزة الدول ــ الأمم الأمنية والعسكرية.
• • •
كل هذه المعطيات تدفع الكثيرين فى الشرق كما فى الجنوب إلى الاعتقاد بأن العولمة الرأسمالية، ستكون متخصّصة على وجه العموم فى تدمير أو اقتلاع أو إعادة إنتاج وسبك الهويات فى المناطق الطرفية فقط من النظام العالمى، حيث الحدود مرنة والهويات هجينة وسائبة. ويستند هذا المنطق إلى التالى: طالما أن العولمة الرأسمالية هى أساساَ نتاج المجتمع الغربى، وطالما أن التكنولوجيا هى أيضا تطوير غربى، يكون من البديهى أن تحاول العولمة دمج الجميع فى «فضائها الغربى» الثقافى ــ الحضارى، بالدرجة الأولى عبر إلحاق هويات العالم النامى بها بعد تسويتها بالأرض.
الرأسمالية ليس لها فى الواقع لا إله ولا دين ولا حضارة. دينها وديدنها هو الربح والتراكم، والمزيد من الربح والتراكم. انظروا ماذا فعلت، وتفعل، العولمة الغربية بأبناء جلدتها القومية من مئات ملايين العمال فى الولايات المتحدة وأوروبا حين تبيّن لها أن مصلحتها تكمن فى «تصدير الأعمال» إلى البلدان الآسيوية. هذا التدمير الخلاّق سيتضمن، وربما فى المقام الأول، الهوية أو الهويات وأنسجة المجتمعات الغربية نفسها.
فالتغييرات الكاسحة التى جرت، وتجرى قدما، فى بنية الاقتصاد الرأسمالى العالمى، والتى تترافق مع الفتوحات التكنولوجية الكبرى فى مجالات الاتصالات والتكنولوجيا الحيوية، ومع تهاوى الحدود الاقتصادية والتجارية الفاصلة بين العالمين الرأسمالى والاشتراكى غداة نهاية الحرب الباردة، كل ذلك وضع رأس الدولة ــ الأمة الغربية، بكل ترساناتها الثقافية ــ الفكرية والسياسية ــ الاجتماعية والاقتصادية، تحت مقصلة انقلاب تاريخى لا يرحم.
هذا التطوّر، الذى يرقص على إيقاع تمدّد الرأسمالية العالمية، خلق تحديات كبرى لحكومات ودول العالم الصناعى. فالمهام التى كانت تقوم بها الدولة، باتت متعذّرة بسبب متاعب موازين المدفوعات ومشاكل الاقتصاد الكلى، وتدهور أنظمة الرعاية الاجتماعية مع بداية الثمانينيات، واحتضار القطاعات الصناعية القديمة الذى خلق مشاكل خطيرة كالبطالة واسعة النطاق، وتهاوى البنى التحتية، وتراجع مستويات العناية الصحية والتعليمية. كل هذا خلق ضغوطا كبرى من الناخبين لم تستطع الحكومات التجاوب معها لقصر ذات اليد.
هذا التطور أسفر عن بعثرة سلطة الدولة ــ الأمة لصالح السلطة الاقتصادية (والآن السياسية) للسوق، وأيضا لصالح مختلف أوجه العلاقات والروابط الاقتصادية الدولية والإقليمية خارج سيادة الدولة، ما أدى إلى تقويض أجزاء واسعة من العقد الاجتماعى بين المواطنين والدولة ــ الأمة، ونسف قدرة هذه الأخيرة على الوساطة بين مواطنيها وبين الاقتصاد العالمى، وبعثر كل منظومات القيم والهويات الغربية.
• • •
فى ظل هذه المعطيات، بدأ المواطنون والمواطنات فى الغرب يبحثون عن أنماط أخرى من الهويات والكيانات الاجتماعية ــ السياسية التى قد تضمن لهم حماية ما من غوائل عولمة منفلتة من عقالها، خارج إطار الدولة ــ الأمة. بعض هذه الكيانات صغير وبعضها الآخر كبير، لكن مع مثل هذا السياق، ليست الحدود السياسية هى وحدها التى سيُعاد رسمها، بل أيضا الحدود الاجتماعية المُتضمنة لفلسفة معينة من التاريخ وكيفية مقاربته.
وهذا قد يؤدى فى نهاية المطاف إلى فك ارتباط الدولة بالأمة فى العديد من البلدان، عبر العودة إلى تعريف قديم، ومرة أخرى أصغر أو أكبر، لما يعنيه تعبير «الأمة». البدائل هنا تبدو عديدة عن الدولة ــ الأمة: بروز هويات وولاءات متعددة للمواطن الغربى على رأسها الولاء للمجتمعات الصغيرة المحلية، خاصة فى المدن الكبرى، على أسس عرقية أو دينية أو طائفية أو لغوية. وهذا التشظى قد يخلق مضاعفات خطيرة: إذ كيف يمكن إدارة العلاقات بين هذه المجتمعات الصغيرة التى تتوزّع فيها الولاءات، وقد تضيع فيها حقوق الأقليات، خاصة مع غياب سلطة عالمية قادرة على فرضها؟
فى الولايات المتحدة، قوة الدولة ــ الأمة التى سمحت لها فى السابق أن تكون «بوتقة انصهار» تحوّل المهاجرين إليها إلى مواطنين، تتآكل بسرعة فائقة الآن بفعل تغيّر طبيعة الاقتصاد الأمريكى، وكذلك بتأثير الانقلابات الديمغرافية المتسارعة لغير صالح البيض. وهذا ما يدفع العديد من قطاعات المجتمع الأمريكى إلى البحث عن ملاءات حماية عرقية أو طائفية أو لغوية فى الداخل، وملاءات دولية فى الخارج.
ففى كاليفورنيا، خامس أكبر اقتصاد فى العالم، تتهاوى الحدود بين هذه الولاية الكبرى وبين المكسيك: فمن بين كل خمسة كاليفورنيين هناك حاليا اثنان من أصل مكسيكى (فيما كانت النسبة العُشر العام 1970). ومع مطالع القرن الحادى والعشرين بات اللاتينيون يشكّلون ثلث سكان الولاية و40 فى المائة من سكان لوس أنجلوس. وهكذا، بعد 500 عام من وصول كريستوفر كولومبس إلى أميركا، تتساقط بسرعة الحدود بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، على رغم كل صرخات دونالد ترامب الاحتجاجية خلال حملته الانتخابية وبعدها ضد المكسيكيين واللاتينيين، وتتراجع سطوة الثقافة الأنجلو ــ ساكسونية.
هذه المعطيات الاقتصادية والديمغرافية والثقافية تلقى أضواء على أسباب تصاعد العنف فى الولايات المتحدة، واتخاذه على نحو متزايد الطابع العنصرى فى مجالات العرق واللون والطائفة. فالنسيج الاجتماعى الأميركى كان يجد لحمته الرئيس فى النمو الاقتصادى وفى دور الدولة الكينزية الحامية اجتماعيا والمشجّعة على أولوية الوطنية والقومية الأميركيتين. والآن، سنشهد على الأرجح اندفاع أعداد هائلة من المواطنين الأمريكيين إلى البحث عن ملاذات آمنة خارج أسوار الدولةــ الأمة، سواء فى مجتمعات محلية، أو جماعات عرقية وإثنية ودينية، أو حتى فى حركات انفصالية فى بعض الولايات.
• • •
إلى أين تقودنا كل هذه المعطيات؟ إلى ضرورة النظر إلى ما هو أبعد من الصراعات الجيوسياسية الراهنة، من أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبى مرورا بالطبع بغرب آسيا وآسيا الوسطى، لمحاولة رؤية غابة جيوبوليتيك الثورة التكنولوجية الرابعة. وإذا ما فعلنا ذلك، سيكون فى وسعنا وضع الصورة المحتملة التالية للعالم:
1ــ أوروبا والاتحاد الأوروبى سينفجران قريبا، ليس بسبب الحرب الأوكرانية وتجدّد الصراع التاريخى مع روسيا، بل بفعل عجز الاتحاد الأوروبى والدولــ الأمم الأوروبية معا عن حل مشكلة البطالة الهائلة الزاحفة والتمزقات المجتمعية وانفجار القوميات العنصرية المدمرة.
2ــ الولايات المتحدة بعد عقدين أو ثلاثة قد تسير على الدرب الأوروبى نفسه، أو على الدرب السوفييتى، بعد أن بدأت العولمة الأميركية تفترس الشعب الأميركى نفسه، وبعد أن عادت أشباح الحرب الأهلية الثقافية والاقتصادية واللاهوتية تطل برأسها مجددا، ما قد يدفع كاليفورنيا وولايات مهمة أخرى إلى اختيار الانتماء إلى بوتقة آسيا/ المحيط الهادئ، التى تمسك الآن بزمام 60 فى المائة من الإنتاج والتجارة العالمية، بدل أوروبا/ الأطلسى، الأمر الذى ربما يؤدى إلى تفكك الولايات المتحدة نفسها.
3ــ السلطة العالمية، بالتالى، ستنتقل من الغرب إلى الشرق، أو بالأحرى ستعود إلى الشرق حيث كانت طيلة التاريخ ما عدا القرون الخمسة الأخيرة، خاصة وأن العمالقة الآسيويين الثلاثة، الصين واليابان والهند، يصعدون معا للمرة الأولى فى التاريخ إلى قمرة القيادة العالمية.
بالطبع، ليس وضع شرق وجنوب شرق آسيا محسوما. إذ سيكون على العمالقة الثلاثة الاختيار بين أحد أمرين: إما تكرار الحروب القومية الكارثية على النمط الأوروبى لفرض السيطرة الأحادية على آسيا/ الباسيفيك، بتشجيع من الولايات المتحدة التى تحرّض الآن الهند واليابان على التصدى للصين، أو التوجّه إلى وفاق آسيوى، يعتمد على القيم الآسيوية التى بشّر بها مهاتير محمد ومفكرين صينيين، يُقام بموجبه نظام عالمى جديد متعدد الحضارات بزعامة آسيوية.
وقفة أخيرة: أين مشرقنا المتوسطى الحضارى من كل هذه الزلازل الدولية؟
إجابة واحدة وسريعة: سيكون على المثلث الذهبى الحضاريــ التاريخى المكوّن من مصر وإيران وتركيا الاختيار أيضا بين أمرين كما عمالقة آسيا: إما مواصلة الصراعات الجيوسياسية والإيديولوجية الراهنة، كما يحدث الآن، بكل ما يتضمّنه ذلك من تكلفة بشرية بملايين الضحايا، وأكلاف مالية بتريليونات الدولارات، وانهيارات بيئية وإيكولوجية مريعة، وإما إعادة بناء مشتركة للحضارة المشرقية على أسس الوحدة الجيو ــ ثقافية والجيو ــ استراتيجية التاريخية للمنطقة. وحينها، ستشكل الحضارة المشرقية المتوسطية بشطريها الإسلامى والمسيحى القوة الوازنة الجديدة فى نظام عالمى جديد متعدد الحضارات.