أغلق مَحلُّ الفول والطعمية أبوابَه بعدما وقعت مُشادَّة عنيفة بين اثنين من الزبائن؛ أرادا كلاهما حجزَ المقاعد القليلة الخالية، تمهيدًا لتناول وَجبة السُّحور. جاء الموقفُ مخالفًا للمألوف؛ إذ العادة أن تقع المُشادات في نهار رمضان، وأن يتعللَ المتشاحنون بضيق الصدر الذي يتسبب فيه الصَّوم؛ خاصة مع افتقاد المُدخنين منهم لسجائرهم، والمُعتمدين على المُنبهات لفناجين قهوتهم، أما أن يظلَّ الناسُ على فورانهم بعد انطلاق مدفع الإفطار بساعاتٍ طوال، وفي سياقٍ جرى العرفُ على أن يتلونَ -ولو ظاهرًا- بكرمِ الأخلاقِ والتسامي عن الصغائر؛ فمَسلك يعكس مشاعر استفزاز كامنة، تدفع بالغضبِ إلى السَّطح، وتؤجج الرغبةُ في التعبير عن السُّخط بأيّ وسيلة وفي أيّ ظرف.
• • •
المَحَلُّ اسمُ مكان من الفعل حلَّ؛ أيّ جاء وظهر، وحلَّ الرجلُ بالدار أيّ نزل عليها وأقام فيها، وحلَّ الأمرُ أيّ بات مقبولًا مُباحًا. إذا حلَّ الواحد مشكلتَه فقد أوجَد لها مَخرجًا، وإذا حلَّ المِسمارَ فالقصد أنه فكَّه وأرخاه، والأهزوجة الطريفة التي طالما غنيناها أطفالًا في شهر رمضان تقول: حِلّ الكّيس وادينا بقشيش لنروح ما نجيش يا حاللو. الفاعلُ حالٌّ بتشديد حرف اللام والمَفعول مَحلول به وفيه.
• • •
زرت منطقةً شِبه عشوائية، تنمو فيها البناياتُ دون رادع وتتوالد بغير تخطيط؛ وكانت سنواتٌ طويلة قد مرَّت دون أن أقترب منها أو ألمح ما طرأ عليها من مُستجدات. رأيت عددًا هائلًا من المَحلات التي افتُتِحت مُتلاصِقة، لا يفصل بين جدرانها شبرٌ واحد، لافتاتها ضخمةٌ تفنَّن واضعوها في جعلها مرئيَّة جاذبةً؛ بعضُها ينوه عن أنواع من الملابسَ والبعضُ الآخر عن مُستلزَمات البيوت وأخرى تعلن عن أمتَن الأحذية. لفت نظري أن الأسماءَ الأجنبية أو تلك التي تتمسَّح بلغات غير العربية؛ قد توارت على عكسِ الشائع هنا وهناك، في حين انتشرت أسماءٌ من العاميَّة المصرية والفصحى أيضًا. رفعت بعض المَحلاَّت عناوين تتسم بالجِدَّة والطرافة مثل: قلبوظة، تكبيرة، دلع رجليك، وعزَّزتها بخطوط وألوان تتماشى مع المعنى وتدلل عليه، وقد تألقت أيضًا السلاسلُ الشهيرةُ قديمة الوُجُود ومنها: آخر العنقود وآخر فرصة ووِش السَّعد وفتكات.
• • •
رغم الزحامِ الهائل واختلاطِ المارَّة بالتوكتوك وعرباتِ اليدّ التي تحمل الخضروات وبالسيارات الفارهة والمُتواضعة على حَد سَواء، ورغم صعوبة السَّير على الأقدام دون الارتطام بشخص أو شيء؛ لم أُخفِ سعادتي بالاكتشافِ غير المُتوقَّع وأنا أطالع لافتة بعد أخرى، وغالب الظنّ أن خصائصَ السُّكان الذين تجاوروا في حَيزٍ ضئيل، لا يَسمح بالكثير من الادعاء والتزييف؛ قد انعكست على اختيارات الأسماء. فرَض المكانُ حضورَه وأفرز ما يتناغم مع طبائع أهله وأحوالهم؛ حرَّضهم على استخدام ما يلائمهم، وأبرز ما يملكون من خِفَّة روح، ومَوهبة خاصة في صَوغ القفشات اللاذعة والتعبيرات المُبتكَرة. كانت المقارنة بين ما صادفت في هذه الجولة، وبين ما أطالع في طريقي اليوميّ المعتاد من إعلانات لمُنتجَعات ومشروعات كبرى تتسمَّى بألفاظ أجنبية، وتجافي مَزاعمَ الحفاظِ على الهُويَّة وتذهب بها أدراجَ الرياح؛ مقارنة كفيلةً بأن تصنعَ بَصيصَ أملٍ في الأفقِ الدَّاكن، وتعادلَ سخافة الرَّسائل المُتعاقبة التي ما بَرحت تقتحم المَحمولَ عنوةً، وتذكّر في إصرار بأن لغات أخرى تسعى لإزاحةِ لغتِنا الأصليَّة من السَّاحة، وبأن بوصلَة الوطن تتحوَّل تدريجيًا إلى اتجاه غامض؛ تحفُّه علاماتُ الاستفهام.
• • •
يبقى بعضُ الناس رغم مرورِ الزَّمن مَحلَّك سِر؛ والمعنى أن شيئًا لا يتغير في حيواتِهم؛ فلا الخطوةُ تمضي بأحدهم إلى الأمام ولا تعود به كذلك للوراء. تتحرَّك الساعاتُ والسَّنوات وهم في أماكنِهم، لا ينجزون أمرًا مَحمودًا، ولا يُمنون في الوقت ذاته بفشل مُروع يَهزُّ أعماقَهم ويُزيل عنها ما تراكمَ من غبار. الركود هنا عنوانٌ مُستَدام.
• • •
"مَحلَّة روح" هي إحدى قرى مَركز طنطا التابع لمحافظة الغربية، وقد أوردها ابن الجيعان في كتاب "التُحف السَّنية بأسماء البلاد المِصرية"، كما ذُكرت ضمن قرى سمنود في تعداد أُجرِيَ بنهاية القرن التاسع عشر. سمعت عنها ضِمن حكايات الأجداد؛ فتركت في أذنيَّ وَقعًا خاصًا وبقيت أستعيد الحديثَ عنها إلى أن فتَّشت بين الخرائط وعثرت عليها. لم تكن الوحيدةَ التي تحمل اسمًا مُغريًا بالبحث عن أصلِه؛ فإلى جوارها تقع "صَفط تراب" و"شَبشير الحصَّة" وغيرها من قرى يُعرَف السِرُّ وراء تسمِيَة بعضها ويبقى البعضُ الآخر غامضًا.
• • •
إذا حلَّ الركبُ على المكان؛ فالمعنى أنه وَصل، وإن كان القادمُ ذا شأن رفيع؛ تسابقَ الناسُ في دعوته كي يَحلَّ عليهم ضيفًا كريمًا، وإذا قيلَ حللت أهلًا ونزلت سهلًا؛ فعبارة تراثية خالدة، غرضُها الترحيب وإبداء السُّرور.
• • •
تتغيَّر إدارةُ مكان ذي طبيعة خدمية؛ مَصلحة، مَطعم أو حتى فرع لمَتجر كبير، ويحلُّ مَسؤولٌ محلَّ الآخر؛ فإذا الآيةُ تنقلبُ رأسًا على عَقب وإذا الأحوالُ تتبدَّل. أحيانًا ما تتحقَّق قفزةٌ واضحةٌ ترفع المُستوى، أو يتهاوى الأداءُ وتتراجع المَيزاتُ وتتلاشى. العادة في مُجتمعنا أن يعتمدَ نمطُ العمل والإنجاز على حضور شَخصٍ بعينه فإن غاب؛ فَسدَ الأمر وانهارَ الإيقاع، وتلك سِمةٌ غالبة؛ فلا قواعد ثابتة ولا مَرجعيات واضحة.