أجمل ما يقدمه فن الرواية للقارئ تلك الزوايا المختلفة لاكتشاف الذات والعالم، وتلك الرؤية العميقة التى تثرى عالمنا المحدود. ورغم أن الكاتب يعبّر بالضرورة عن ذاته وعالمه، ووجهة نظره الخاصة، فإن كل ما هو خاص يتحول إلى عام وإنسانى، لأننا نتشارك فى العواطف والأفكار، وفى الأسئلة الوجودية العابرة للعصور والأجيال.
وهذه رواية مهمة ومؤثرة، رغم أنها الرواية الأولى لمؤلفتها لبنى صبرى، ولكن لبنى كاتبة متميزة منذ سنوات طويلة، وكنا نقرأ لها عمودًا قصصيًّا يوميًّا مدهشًا بعنوان «مذكرات سكرتيرة» فى جريدة «العالم اليوم».
كان واضحًا تمامًا أنها تمتلك خيالًا خصبًا، وولعا بالتفاصيل، وبرسم الشخصيات، وقد عادت مؤخرًا إلى شغف الكتابة، فاشتركت فى مجموعة قصصية بعنوان «خيوط النول»، كانت ثمرة ورشة للكاتبة منى الشيمى، وكانت قصص لبنى من أنضج قصص المجموعة.
أما الرواية الأولى الصادرة عن دار روافد، فقد جاءت تحت عنوان «بين الليمونة والترمسة» الذى يمتلك معنى ودلالة فى الرواية، ولكن الأهم هو أننا أمام «بورتريه» مدهش لبطلة قلقة مغتربة عن واقعها ومحيطها، تقف لتتأمل ماضيها بشجاعة، فى محاولة للخروج من دائرة عاشت فيها طوال حياتها، بسبب مخاوف وهواجس شتى، ونتيجة لاختيارات لم تكن موفقة، وعبر طبقات متراكمة من الخبرات الشخصية والمهنية.
هذا هو المفتاح الأول للرواية؛ أى كونها بالأساس رواية عن شخصية واحدة، هى ضحى المصورّة الصحفية، والشخصيات الكثيرة حولها، ماضيا وحاضرا، وعائليا ومهنيا، تقوم بدور ضربات الفرشاة متعددة الألوان فى «بورتريه ضحى».
تبرع لبنى فى ترجمة مخاوف بطلتها منذ الطفولة، ويأسرنا عالمها الداخلى الواسع، بقدر ما يلفت أنظارنا ضيق حياتها الخارجية، ومحدودية حركتها واختياراتها، وفشلها فى التحقق.
لدينا دراسة نفسية ممتازة للشخصية، لأن الصراع داخلى بالأساس، ولدينا أيضًا بناء طموح وصعب، فقد كان من الأسهل الحكى بطريقة تقليدية من الماضى البعيد إلى الحاضر الأقرب، ولكن الحكاية تسير فى زمنين بالتوازى: ضحى فى الحاضر بعد أن حصلت على إجازة لمدة أسبوع من عملها، وضحى فى ماضيها كله، وفى مدى زمنى طويل يزيد عن خمسين عامًا.
نذهب ونعود متأملين سرد ضحى المتواصل، وكأنها تقف أمام مرآة، ترى فيها أعماق ذاتها، وربما تحاكم نفسها أيضًا، تستدعى أبسط اللحظات، وأكثرها تعقيدًا، لكى تبحث عن سرّ شعورها بالإحباط والفتور، ولكى تحاول أن تتصالح أخيرًا مع ذاتها.
كل الحكايات من منظور ضحى، ولكن بعد أن منحها فراغ العطلة فرصة لكى تتتذكر بعمق، بل إنها تحاول إعادة تعريف مفاهيمها المستقرة حول الفشل والنجاح والاختيار والحب والخوف، وبمنطق التداعى واللوحات المتجاورة، أى أن راحة العطلة تتحوّل فجأة إلى عمل متصل، ولكن داخل الذات والذاكرة، وليس خارجهما.
العلاقة مع الأسرة، مع البيت القديم، مع الخادمة، لذة وخطيئة الأسرار والتواطؤ، الرغبة العارمة فى جلب التعاطف، إلى حد ادعاء المرض، تجارب الحب والزواج، البدانة، المسافة الهائلة بين الحلم والواقع، فضفضة الصديقات، الانبهار بالخارج، والانخداع بالشكل والمظهر، لحظات الاختبار المهنية الصعبة، تفاصيل الحياة الصغيرة المرهقة، مع مواقف متكررة تضعها أمام مسئولية القبول أو الرفض.
يشكل كل ذلك تفاصيل جدارية حياة ضحى، ويبرز من خلالها بوضوح ما أطلقت عليه الساردة تعبير الـ «هى»، أو تلك العين الحقيقية والمجازية التى تراقب بطلتنا، وتملك أن تلومها وتعاقبها، منذ أن تواطأت الطفلة مع الخادمة على حفظ الأسرار، وتبادل الصمت.
تبدو هذه الـ «هى» من أسباب أزمة ضحى، حيث تتلوّن مخاوفها بألوان شتى من الرقابة، وبتنويعات مختلفة طوال حياتها، دون أن نغفل مسئولية بطلتنا عن اختياراتها، والتى تعبر عن تأرججها بين الطفولة والنضج، ودون أن نتجاهل أيضا المحيط الطبقى المحكم الذى تتحرك فيه، رغم محاولاتها المستمرة لكى تتجاوزه.
نرى حياة كاملة مركزها ضحى، التى اكتشفت أخيرًا قيودها الداخلية، سواء بإرادتها، أو رغما عليها، والآن عليها فى نهاية الأسبوع أن تقرر ما إذا كانت ستتحرر، أم ستكمل حياتها على هذا النحو؟
جاءت الرواية ناضجة إلى حد كبير، لأن بورتريه الشخصية ظاهرا وباطنا، ماضيا وحاضرة، قد اكتمل فى النهاية، وبينما توقعتُ أن كثرة لوحات العودة إلى الماضى، وتلك الحركة المستمرة بين أسبوع التأمل، وسنوات الماضى الطويلة، قد تخلخل البناء، وتفلت الفكرة، وتؤثر على تماسك الرواية، إلا أن الكاتبة نجحت إلى حد كبير فى ضبط لوحاتها، ووضعت كل حكاية فى مكانها ووقتها، ونسجت بمهارة شرنقتها المحكمة، بالإضافة إلى أننا شعرنا بوضوح بأن ضحى تنمو وتتغير، وبأن هذه الشخصية التى تبدو هادئة، تحمل فى داخلها براكين غضب، وطاقة حياة مكبوتة، سرعان ما تعبر عن نفسها فى موقف، أو فى مواجهة مع رئيس العمل، أو حتى عندما تخرج إلى ميدان التحرير.
تنجح الرواية، كذلك، فى توظيف الأغنيات من أول النص إلى نهايته، وهى ليست فقط إشارات إلى الزمن والعصر، وإنما هى بالأساس وسيلة للتعبير عن الحالة النفسية التى تعيشها الشخصية، أو قد تعمل أحيانًا كمعادلٍ فنى لخلق الجو، وبما يتوافق أيضًا مع ميول ضحى الفنية المتنوعة، غناء وموسيقى ورسما وتصويرًا.
لا تنفى الرواية أهمية دوائر الزواج والعمل والصداقة حول ضحى، ولكنها تقول إن كل ذلك لا يغنى عن التصالح مع الذات، ومواجهة الماضى، والتحقق الذى يملأ الروح. كل ذلك لا يحلّ المخاوف والعفاريت الكامنة فى طفولتنا، ولا ينقذنا من غياب المعنى وزوال الطعم، ولا يمنحنا الراحة والسلام.
تعيدنا حكاية ضحى إلى أصل المسألة: راحة الداخل وليس الخارج، سكينة الذاكرة، لا هدوء العطلة والإجازات، أن نعرف متى نقول «لا» بوعى وحرية، و«لا يكون الإنسان حرا إلا عندما يكون»، وهى عبارة فولتير التى تتصدر الرواية.
عدم التحقق فى هذه الرواية «موتٌ بالحياة»، وعدم المواجهة هروبٌ لا يجدى.
ننتظر الكثير من لبنى صبرى فى أعمالها القادمة.