كثيرةٌ هى الأفلام اللبنانية، تسجيلية وروائية، عن الحرب الأهلية التى استمرت 15 عامًا، وقتلت أكثر من 200 ألف شخص، بل يمكن القول إن هذه الحرب تشكل نوعًا مستقلًا فى السينما اللبنانية، وأفلام كثيرة منها تقدم معالجاتٍ فنية مبتكرة ولافتة ومؤثرة.
أضع بين هذه النماذج - بكل ثقة - هذا الفيلم التسجيلى؛ وعنوانه «خط التماس» للمخرجة الفرنسية سيلفى باليوت، والذى عرض فى مهرجان لوكارنو، ومهرجان الإسماعيلية للسينما التسجيلية، والذى يقدم معادلًا فنيّا مدهشًا لأزمة بطلته اللبنانية فدى محمد بزرى التى وُلدت قبل قليلٍ من اشتعال الحرب الأهلية فى العام 1975، وعاشت أحداثها حتى النهاية، وها هى تتذكر لحظات الخوف والموت التى سكنتها منذ طفولتها، وحتى اليوم.
ولكن وسيلة «التذكر» هى بالأساس مجموعة من الدمى الصغيرة التى تعيد تجسيد وقائع الحرب، ومنها دمية صغيرة تمثِّل فدى نفسها، وقد ارتدت زى المدرسة حاملةً شنطتها على ظهرها.
ستحمل فدى الكبيرة هذه الدمى والنماذج إلى لبنان اليوم، محاولة استقصاء وقائع المجازر القديمة، ولحظات خوفها مع الذين قاتلوا أو شهدوا تلك «الأحداث»، وهو التعبير الذى يطلقه الجميع على تلك المأساة الدامية.
منح هذا المعادل الفنى الفيلم مستويين متداخلين: مستوى شاعرى طفولى تمثله ذاكرة الدمية الخائفة، وبقية الدمى التى تجسد المعارك ببساطة وبراءة، وذاكرة الواقع الخشن الدامى، بشهادات مباشرة للمشاركين فى الحرب وشهودها الأحياء، بالإضافة إلى مشاهد تسجيلية أرشيفية تكمل هذه الشهادات، كما تلجأ المخرجة فى مشاهد كثيرة للاستعانة بالصور الفوتوغرافية، من تلك السنوات الصعبة والمؤلمة.
وتظهر فدى بزرى مرتين: مرة كدمية صغيرة تصاحبها تعليقات صوت فدى، وهى تستدعى مشاعر الأمس البعيد، ومرة كامرأة ناضجة اليوم، وهى تجوب شوارع بيروت، وتتفقد خط التماس القديم بين المتحاربين، وتواجه مقاتلى الأمس، وتستجوبهم، وتحاول أن تجد لديهم حلا لتجاوز هذه المأساة، وتلك المخاوف التى تسكنها.
البناء كله قائم على هذا الجدل بين فدى التى تتبنى ذاكرة البراءة المهدورة، والخوف المقيم، وتنظر بمثالية إلى الآخر، وشهادات واقعية حادة وصادمة، تتبنى غريزة حب البقاء، وهوس السيطرة، والبحث عن تبرير، وقد تحاول الاعتذار أحيانًا، ولكننا أمام براءة ومثالية فى مواجهة جنون الحرب المدمرة.
شهود الفيلم من طوائف ومواقع شتى، وهم يواجهون فدى، ويواجهون الدمى معًا، كما يواجهون أحيانًا صورًا فوتوغرافية كبيرة، وفدى الكبيرة تظهر فى أول الفيلم بنفس الزى المدرسى وشنطة الظهر، ويكون الزى أحمر بلون الدم، ثم ترتدى لونًا أزرق، عندما تستدعى سيرة البحر الذى كان يعشقه والدها، وتنتقل فدى مع شهودها من ذاكرتها الشخصية، إلى ذاكرة الحرب كلها، وخصوصًا أيامها الدموية، ومجازرها الشهيرة: من السبت الأسود، ومذبحتى الدامور والمرفأ، وصولًا إلى مذبحة صبرا وشاتيلا.
تتذكر فدى تفاصيل الطفولة: انتقالاتها بسبب الحرب إلى عدة مدارس، قطع الدروس والانتظار وحيدة بعد أن عاد الجميع إلى منازلهم، رحلات التسلل مع جدتها للاطمئنان على بيتهم الغارق فى التراب فى بيروت الشرقية، رؤيتها لجثتين أسفل تمثال أول رئيس لبنانى، حديث جدتها عن جهنم الحمراء، ذلك الجندى الذى وجّه بندقيته إلى فدى، تفكيرها فى طفولتها فى الموت باعتباره حلا وراحة، هروبها إلى الصخرة الضخمة، حيث الشمس والهدوء، صور الأشياء والأشخاص، وكيف كانت تبدو عملاقة، وكيف كانت الحركة بطيئة، والدها الذى نجا بأعجوبة من مذبحة المرفأ بعد أن ناداه صديقه باسم مسيحى غير صحيح، بينما الأب مسلم مؤيد للفلسطينيين.
عندما يظهر الشهود الأحياء، تتراجع تعليقات فدى الشاعرية على صور الدمى، وتقتحم الدمى نفسها الواقع، فتقوم فدى بنشر عرائسها على طاولة وسط مكان مهجور، لكى يتأمل كل شاهد وقائع تخصّه، مصغرة وصامتة أمامه، وعليه الآن أن يواجه الماضى، مثلما واجهته فدى.
تتنوع الشهادات تنوعًا مذهلًا، وتقدم وجهات نظر متنوعة: البعض يتحدث عن غريزة البقاء، والدفاع عن النفس، وأحد الشهود يتحدث عن العبث، لأن القتال يدور حسب المزاج، وتحت تأثير المخدر، وتبدو الحرب وسيلة للعيش، لأن السلاح يؤمن الطعام، ويوفر الدخل.
والبعض يتحدث عن الدفاع عن المبدأ، ومقاومة إسرائيل التى تقف وراء الفتنة والشر عمومًا، ومقاتلة تصف قتلها لفلسطينيين بمعجزة حققتها الصلاة للسيدة العذراء، ومقاتل محترف يدعى أسعد يقدم اعتذارًا كاملا عما فعله فى الحرب، وشاهد آخر رأى مجزرة المرفأ يتبنى اليوم الدعوة للسلام، وتظهر شقيقة فدى مستاءة؛ لأن دعاوى التطرف والطائفية ما زالت حاضرة عند الأجيال الشابة.
يتحقق معنى «خط التماس» فى مستواه الواقعى والمجازى، حيث نرى مكان هذا الخط اليوم، بعد أن كان يفصل شوارع بيروت شرقًا وغربًا، ونتأمل أيضًا «التماس» بالمعنى المجازى، عندما تتقاطع أصوات الماضى والحاضر، ومنطق فدى المثالى، ومنطق الشهود الواقعى، ولا يكتفى الفيلم بذكر ما جرى، وإنما يحلله ارتباطًا بالصراع العربى الإسرائيلى، واحتلال فلسطين، ثم لجوء الفلسطينيين إلى لبنان، وقد كانت العناصر الفلسطينية فى قلب الصراع.
وبينما يعبِّر كل طرف عن موقفه تمامًا، ويحاول الكثيرون «التفسير» وربما «التبرير»، ويتحدثون عن أطرافٍ عربية كانت تزيد من الصراع، وترسل أسلحة للأطراف المتناحرة، فإنه كلما اقتربنا من نهاية الفيلم تجسدت العبثية واللا معنى، وتبلور رأى يقوله أحد الشهود بأن الجميع مجرمون ومذنبون، وأن عليهم جميعا الاعتراف بذلك، بدلًا من الهروب والإنكار.
ربما احتاجت بعض الشهادات إلى التكثيف والاختزال، وربما جاء مشهد إحراق فدى لصور الحرب الأهلية مباشرًا وساذجًا، لأن إحراق الصور لن يمحو الذاكرة، ولن يعالج الخوف، ولكن الفيلم نجح - فى النهاية - فى تحقيق تأثير قوى عاطفيا وعقليا، بهذا المزيج بين ذاكرة الطفلة ومواجهة شهود الحرب والدمار، بين الماضى الذى لا يموت، والحاضر الذى تتوفر فيه أسباب جديدة للقلق، تشهد الدمى على البشر الحمقى، دمى بيضاء ملوثة بالدم، تتجه فى قوارب عائمة، نحو المجهول.