من حِكم العرب ما تردد على ألسنة من خبر الأزمات والكوارث فساق دروسها شعرا جزلا لعل من جاء بعدهم يتعظ بها، ومنها ما قاله الفارس دريد بن الصمة منتقدا قومه؛ لعدم استجابتهم لتحذيره وعدم التحسب لعدوهم والاستعداد له، فى بيت من قصيدة يرثى فيها أخاه:
أمرتهمُ أمرِى بمنعرجِ اللّوَى
فلم يستبينوا النُّصحَ إلَّا ضُحَى الغَدِ
تذكرت هذه الكلمات أثناء مشاركتى فى الاجتماعات السنوية للبنك وصندوق النقد الدوليين، التى انعقدت فى العاصمة الأمريكية واشنطن. وقد سبق الاجتماعات وصاحبها، ثم تلاها، حديث مفعم بالقلق على مستقبل الاقتصاد العالمى، وبعض رسالات التشجيع ومحاولات الطمأنة عن مرونته واستيعابه الصدمات. وتكررت دعوات لقيادات الدول من أجل التعاون والتنسيق أكاد لا أرى لها من مستجيب. فأنى لهذه الدعوات أن يتحقق مرادها بين فرقاء الصراعات الجيوسياسية؟ فمن ناحية، هناك بعض أهل الغرب المتشبثين بالمكانة العليا، بدافع من مقومات تراكمت لصالحهم عبر الزمن، تحت شعارات «نحن أولا»، وإن أضافوا لها مؤخرا توضيحا، ظنوه مفيدا، بأن هذا لا يعنى «نحن وحدنا»، ومن ناحية أخرى يبزغ بعض من أهل الشرق باقتصادات أحسنت إدارتها استثمارا فى البشر، وامتلاكا لعمادات التقدم فى العصر الراهن من تحول رقمى واستعداد لمستجدات الذكاء الاصطناعي، وانتقال مدروس نحو الاقتصاد الأخضر.
وعندما تتوالى موجات الارتفاع فى أسعار الأسهم بما يتجاوز مقومات شركاتها ربحية، من دون مراجعة أو تصحيح، يكثر الحديث عن فقاعات قد تؤدى عند انفجارها إلى أزمات فى أسواق المال. وتجرى اليوم مقارنات بين انفجار فقاعة شركات التكنولوجيا المعروفة بـ«دوت كوم» فى العاشر من مارس 2000، بعد تضخمها فى التسعينيات من القرن الماضى بفعل عمليات احتيال ومضاربات منفلتة، وأسعار أسهم الشركات المشهورة «بالسبعة الرائعين» - وهى شركات التكنولوجيا الكبرى «مايكروسوفت، وميتا، وأمازون، وأبل، وإنفيديا، وجوجل، وتسلا». والحديث عنها فى رهان إذا ما استطاعت هذه الشركات أن تحقق وعدها بزيادة الإنتاجية بدافع من الذكاء الاصطناعى تتوافق مع سباق الأسعار المتزايد عليها، وإلا ستتكرر مشاهد الأزمة على هذا النحو: زيادة شرهة فى الأسعار، تُضخم الفقاعة، فتنفجر محدثة دويا بمقدار انتشار المضاربين عليها بأموال غيرهم اقتراضا، بما يحدث أزمة سيولة، ومن ثم تتوالى فصول الأزمة، وفقا لعمقها بتداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
وعندها سيعاود المعلقون بالتنويه عن الكتاب العمدة للأزمات المالية، الذى ألفه الاقتصادى تشارلز كندلبرجر فى عام 1978، بعنوان «هوس، وذعر وانهيارات». ثم يباريهم معلقون آخرون بأنهم رأوا الأزمة قادمة قبل غيرهم، مستندين إلى ما يعرف بأن الأسواق قد أدركتها «لحظة مينسكى» الفارقة بين صعود الأسواق حتى نقطة بدء انهيارها. وهذه اللحظة منسوبة للاقتصادى هايمان مينسكى التى وصف بها انتقال قطاع المال من الاستقرار للهشاشة ثم الأزمة بفعل المضاربات الممولة بالاستدانة التى تُضخم من الفقاعة حتى انفجارها.
إذن، حتى لا تنفجر الفقاعات، وإذا انفجرت فلا تحدث أزمة كسابقاتها، فالأمر منوط ببعدين: الأول، أن تتوالى المكاسب الحقيقية من زيادة الإنتاجية والكفاءة المتحققة بالذكاء الاصطناعى، والتى يذهب الاقتصادى جاسون فورمان إلى أنها عوضت خسائر الاقتصاد الأمريكى بفعل الحرب التجارية المشتعلة. الآخر، استيعاب دروس الأزمة المالية العالمية لعام 2008 فيما يتعلق بقواعد الرقابة الحصيفة على البنوك، وأن الحوائط المانعة من انتقال انفجار الفقاعات إلى البنوك المسئولة عن وسائل الدفع والاستقرار النقدى تم تحصينها. وأن ما نراه من مشكلات ومخاطر فى أسواق الائتمان الخاص، كسقوط شركة إقراض السيارات «تراى كولور»، شركة قطع غيار السيارات «فيرست براندز»، هى استثناءات تجرى مخاطرها على السطح كفئران هائمة لا تنال من أعمدة البناء. وفى هذه الأثناء، فصعود الذهب ما هو إلا تغير تشفع له ظروف اللايقين المؤججة بالصراعات الجيوسياسية ورد فعل لتسليح الدولار.
فإذا ما كان الأمر على هذا النحو، فما الذى يستحق الانتباه إليه فعلا من قِبل بلداننا النامية، والذى يستوجب الاستنفار وتحذير من اعتادوا الاستفاقة فى ضحى الغد؟
أولا: الارتفاع المستشرى للديون السيادية فى البلدان المتقدمة وارتفاع تكاليف خدمة الديون فى البلدان النامية؛ وقد أدى استفحال الاستدانة فى البلدان المتقدمة إلى أن تخصص لها مجلة «الإيكونوميست» غلافها هذا الأسبوع تحت عنوان «طوارئ الديون القادمة»، وإن كانت لم تعِر بالاً لأزمة مديونية البلدان النامية التى أفردتُ لها مقالات عدة على هذه الصحيفة الغراء، مظهِرا خطورتها على التنمية والتعليم والصحة والاستقرار الاجتماعى، وموضحا سبل علاجها بما فى ذلك الأحد عشر مقترحا لمجموعة عمل الأمم المتحدة.
ثانيا: الاختلال الديموغرافى حول العالم بشيخوخة التركيبة السكانية فى بلدان أوروبية واليابان، وشبابيتها المحمودة فى بلدان نامية ولكنها تهدر بقصور الاستثمار فى البشر.
ثالثا: استمرار الحروب الاقتصادية، ولا أقول التجارية فحسب، وتداعياتها على من لا يستعد لها بنهج لتوطين التنمية والاندراج فى الإقليمية الجديدة بمزيد من التجارة والاستثمار والتعاون التكنولوجى.
رابعا: تهافت معدلات النمو وقصورها عن توليد فرص العمل اللائق، وزيادة الدخول المساندة لمستوى معيشة يصون الطبقة الوسطى ويستنقذ الذين يعانون الفقر المدقع.
خامسا: انحسار فرص التقدم بالتخاذل فى الاستثمار فى الاستعداد للتحول الرقمى والذكاء الاصطناعى ومقومات الاقتصاد الأخضر المستدام.
هذه الأمور الخمسة لا تحتمل إهدار الزمن بأفعال من أتقنوا «فن عمل لا شىء». وفى هذا تفصيل يتناوله مقال قادم.
نقلا عن الشرق الأوسط