فى سلسلتها عن عالم الديون، حذرت «الأونكتاد»، التابعة للأمم المتحدة من توحش أزمة الاستدانة الخارجية للبلدان النامية، وكيف أنها تضاعفت فى حجمها مرتين منذ سنة 2010، لتصل إلى نحو 31 تريليون دولار، بتكاليف للديون زادت بنحو 10 فى المائة فى السنة الماضية مقارنة بالسابقة عليها. وبنفقات عامة على الفوائد فقط، أى من دون سداد أصل الدين، تتجاوز فى موازنات بلدان نامية ما تنفقه على التعليم أو الصحة العامة، وفى حالات أكثر مما تنفقه عليهما معًا.
وليس هذا هو التقرير الأول، ولن يكون الأخير، الذى جاء بمثل هذه التحذيرات الصادمة عن مخاطر أزمة الديون. ولا أحسب أن ما يسمى «النظام الدولى»، بقياداته المنغمسة فى ممارسات مقوِّضة لأسسه المتقادمة، سيعالج هذه الأزمة تلقائيًا أو يحشد لها ما تستوجبه. فقد صدرت تقارير منذرة بما هو أخطر على السلم والأمن الدوليين فلم يتحرك لها ساكن، إلا بعد فوات الأوان. ألا نتذكر كيف أهملت تقارير «مجلس متابعة الاستعدادات العالمية» لمواجهة الأوبئة والجوائح؟ وكان منها تقرير «العالم فى خطر»، بتوصياته السبع للتصدى للجوائح فى عام 2019، فكان مصيرها الإهمال حتى أصاب العالم هلع أزمة كورونا فى عام 2020، بضحاياها وتداعياتها الإنسانية والاقتصادية، وتبعاتها حتى اليوم.
من الدروس المستفادة من الأزمات السابقة وتقاريرها، ألّا تنتظر البلدان النامية منحًا بالاهتمام من سدنة «نظام» يُمضون ما تبقى لهم من زمن الهيمنة القديم فى افتعال معارك، وإرباك الساحة الدولية بما قد يطيل، فى ظنهم، أمد السطوة.
ومن المبادرات التى يجب أن تسابق الزمن فى تفعيلها منصة مشتركة لتوحيد صف البلدان المدينة، وتنسق مواقفها فى المؤسسات الدولية، وتتصدى لما تعانيه فيها من تحيز وتفاوت، وتيسِّر تلقيها المعرفة عن مستجدات الاستثمار والتمويل والديون الدولية وأسواقها، تمكِّنها من الحصول على الدعم الفنى لمؤسسات اتخاذ القرار الاقتصادى، ومنها وزارات المالية والبنوك المركزية خاصة، وتُذكى قدراتها التفاوضية مع مقرضيها.
وقد كان من مخرجات مؤتمر إشبيلية لتمويل التنمية، الذى اختتم أعماله فى شهر يوليو الماضى، ما نصَّ صراحة على الالتزام بإنشاء «منصة للمقترضين لمشاركة الخبرات، وتنسيق المواقف، وتدعيم صوت المقترضين». كما جاء فى التوصية السابعة من تقرير «مجموعة خبراء الديون بالأمم المتحدة» نصًا: «تأسيس منتدى للمقترضين لتبادل المعرفة والخبرات، وتقديم المشورة، وتدعيم فاعلية تمثيلهم وأصواتهم فى المحافل والفعاليات الدولية».
ويجدر إطلاق مسمى «نادى مستثمرى التنمية المستدامة» على هذه المنصة أو المنتدى. ولهذا المسمى الذى تَطوَّر فى أثناء نقاش مع الاقتصادى هومى خاراس، الخبير المرموق بمعهد بروكنجز، دلالة بأن الاقتراض دوليًا يجب أن يستند إلى ضرورة الاستثمار فى مشروع من مشاريع التنمية، ولا يبرَّر إلا بجدواها، والقدرة على سداده، وأنه يأتى فى إطار توليفة من التمويل تستدعيه، بعد مقارنة كل البدائل وتكاليفها وعوائدها. ويقينًا إذا ما استرشد بمثل هذه المعايير لما وقعت بلدان نامية فى فخاخ الديون الدولية مرة بعد مرة.
ينبغى أن يكون لهذا النادى بناء مؤسسى كفء وفعال. ويجب أن يكون مقتصرًا فى مكونه الرئيسى على أعضاء مؤسِّسين من كل أقاليم عالم الجنوب من غير المقرضين، ويمكن أن تكون له دائرة أوسع من الدول الأخرى، والمؤسسات كمراقبين، وتكون له لجنة تسيير، لفترات محددة، من وزراء المالية ومحافظى البنوك المركزية، يراعى فيها تنوع التمثيل الجغرافى، وأحجام الدول، من دون غبن أو انحياز. كما يجب أن تعتمد على سكرتارية فنية متخصصة من الأكفاء، تكون حلقة الوصل بين الأعضاء ومجموعة الخبراء والمتخصصين العالميين الذين سيستعان بهم فى مهام المؤسسة لخدمة أعضائها فى المجالات المشار إليها سواء لإدارة الديون، أو لمنع الأزمات والتصدى لها حال حدوثها.
وتتعدد الصور الممكنة لتأسيس هذا الكيان الجديد، وأفضلها ما جاء على شكل مشاركات كمنظمة غير هادفة للربح؛ منها على سبيل المثال التحالف العالمى للقاحات «جافى». مما يعطيه المرونة الواجبة فى أداء مهامه، والندِّية فى التعامل مع المؤسسات والمنظمات الدولية القائمة، والتجديد المستمر فى تطوير العمل مع الشفافية الكاملة فى إعداد التقارير ونشرها. على أن يعكس الشكل التنظيمى مستجدات العالم وساحات التمويل التى أمست مؤسسات القطاع الخاص وجِهات العمل الطوعى والخيرى تحتل فيها مكانة متميزة ومتزايدة التأثير لا يمكن إغفالها.
ستكون لدول الجنوب فرصة أخرى فى المشاركة فى مؤسسة أخرى معنية بالديون، أوصت بها مخرجات مؤتمر تمويل التنمية، تختلف فى مهامها عن «نادى مستثمرى التنمية المستدامة»، ألا وهى منتدى القروض الدولية، ولنطلق عليه «منتدى إشبيلية»، على اسم المدينة التى استضافت مؤتمر تمويل التنمية. وفى هذا المنتدى يجتمع المقترضون والمقرضون معًا، وتشترك فيه كل جهات منح الائتمان الرسمية، والخاصة، والثنائية والمتعددة الأطراف، جنبًا إلى جنب مع جميع المقترضين من بلدان نامية ومتقدمة. وأولى مهامه فى تقديرى، هى تطوير معايير الإقراض والاقتراض المسئول، وتفعيلها. وفى هذا المنتدى تُجرى نقاشات مستندة إلى تقارير محدَّثة عن واقع أسواق القروض، والسياسات المقترحة حيالها، وتبادل الرأى حول سبل تطوير البناء المالى العالمى ومؤسساته، بما فى ذلك تلك المعنية بالتصنيف الائتمانى ومناهجها.
يجب أن تكون لهذا المنتدى سكرتارية فنية تنظم أعماله، ولجنة تسيير متوازنة تُمثَّل فيها كل أطراف الإقراض والاقتراض. وإذا تحقق له التطور المستهدف، سيكون له دور مهم فى التوقى من أزمات الديون، ومنع وقوعها.
نقلًا عن الشرق الأوسط