على غير العادة، وكأن قانونا كونيا تم كسره بعد أكثر من نصف القرن من سوء الاختيار، ووضع أشخاص فى غير محلهم، يأتى اختيار الدكتور طارق شوقى وزير التعليم الجديد لينعش آمالا وأحلاما تجمدت وتحنطت على مدى سنوات طويلة فى إصلاح التعليم والخروج به من هذا النفق الأسود الذى نغرق فيه حتى النخاع.
قلنا وما زلنا، ما نحن فيه الآن حصاد مُر ومرير لعقود متصلة من ضرب التعليم وتعمد إفساده وهيمنة الجاهلين أو أنصاف المتعلمين من المتطرفين وضيقى الأفق على مقدراته، ومن ازدراء الثقافة والفكر واحتكار المعرفة الدينية، أزمة عميقة تعود جذورها لأكثر من ستة عقود تراكمت فيها مشكلات البطالة والتضخم الاقتصادى وعبء الديون الخارجية، الفقر والجهل يتزايدان بمعدلات مخيفة وتدنى مستويات المعيشة وتهاوى القدرة الشرائية، شيوع شعور عام بالإحباط واليأس وضياع الأحلام والآمال، كل ذلك بموازاة ممارسات سياسية زائفة وفجة فى ظل غيبة أهل الكفاءة وحضور أهل الثقة!
لكل ما سبق كان اختيار الدكتور طارق شوقى وزيرا للتعليم اختيارا مفاجئا وسارا، سيرة الرجل العلمية والإنسانية تسبقه، كل من يستعرض شيئا من تاريخ الرجل أو إنجازاته سيكتشف ببساطة أن مفتاح حضوره وتميزه هو «الانفتاح الثقافى» و«امتلاك الرؤية»، وهما عنصران تقريبا كانا غائبين بالكلية عن معظم، إن لم يكن كل، من جلسوا على كرسى الوزارة.
تجددت الآمال وانتعشت الأحلام بأن شيئا ما يلوح فى الأفق قد يحمل بوادر أو بذور تغيير مرتجى فى إصلاح التعليم، لا تنقصنا الدراسات ولا تشخيصات الأزمة ولا أى توصيف للأمراض التى ضربت حياتنا التعليمية فى مقتل، كل هذا معلوم وموصوف ومسجل، فقط ارجعوا إلى ما كتبه الأساتذة الكبار والمفكرون الأبرار فى المائة عام الأخيرة، لكن تنقصنا دائما الإرادة المخلصة التى تضع التعليم على رأس أولوياتها، وتستدعى أهل الخبرة والكفاءة لا أهل الثقة للخروج من الأزمة وفق مدى زمنى، ومعالجة جذور المشكلات وليس أعراضها.
ببساطة، ليست مشكلتنا فى الأبنية التعليمية ولا المدارس ولا الإمكانات، كل هذا مقدور عليه والله، إنما مشكلتنا فى «الأذهان» التى تقوم على أخطر شىء فى حياة الأمم، تعليم الأبناء والبنات، وما أقصده هنا بالتعليم ليس «التعليم البائس»، الفقير، الحاصل الآن، ليس التعليم الذى يختزل المعرفة فى «مناهج دراسية عقيمة»، ومقررات موروثة عفا على أغلبها الزمن وتجاوزته الشعوب، إنما أقصد بالتعليم هنا ما أشار إليه المؤرخ الدكتور خالد فهمى فى مقال سابق له بـ«التعليم الحر»؛ أى تلك المهارات والملكات التى ينبغى على الإنسان الحر، أى غير العبد، أن يمتلكها.
تلك المهارات التى تتلخص فى القدرة على التفكير النقدى، والتعبير عن الرأى، كتابة وشفاهة، بشكل لبق وبأسلوب سلس، والاستماع والمحادثة والجدال بشكل نقدى، التعليم الجامعى القائم على هذه الفلسفة لا يهدف إلى تخريج طلاب يعرفون كل شىء عن تخصصهم ولا شىء عن أفرع العلم الأخرى، بل يهدف إلى تخريج طالب لديه القدرة على التفكير الخلاق.
ولن نصل إلى هذه النتيجة إلا بأساس هذه العملية كلها وهو «المدرس»، لا يمكن أن تتغير الأحوال وتتحسن الظروف إلا إذا أغلقنا تلك الدائرة الجهنمية التى تستقبل خريجى جامعة ناقصى التكوين غير مؤهلين ولا مدربين ولا يمتلكون أى مهارة أو ملكة تربوية أو تعليمية، ثم نقذفهم كالأمواج الهائجة على مدارسنا ومعاهدنا التعليمية، لا فارق فى ذلك بين تعليم حكومى وخاص، ثم تدور الدائرة وينتج هؤلاء المدرسون طلابا يصبحون بدورهم نسخا مكرورة من الداء والآفة.. وهكذا!
لن يتغير الحال إلا إذا بدأنا بالمعلم، ومن الصفر، من أول إعادة التأهيل والإعداد والتكوين، وصولا إلى الارتقاء بمستواه ومكانته الاجتماعية والإنسانية والمادية، لن نصل إلى تعليم يقودنا إلى أول الطريق الصحيح دون أن يكون هناك «معلم» بهذا المعنى المشار إليه، وهذا الرأى ليس رأيى وحدى، فالروائى الأمريكى الشهير بول أوستر يقول فى إحدى رسائله للروائى الجنوب أفريقى ج.إم.كوتزى (حاصل على نوبل 2003) فى الكتاب المدهش «هنا والآن» (بترجمة أحمد شافعى، وصادر عن دار الكتب خان للنشر):
«يعترف الجميع بالمشكلة، يعرف الجميع أن أغلب تلاميذنا يرسبون، ويفهم الجميع أن لا أمل فى مستقبل الديمقراطية إلا فى شعب متعلم (حتى لو لم نكن أصلا بلدا ديمقراطيا). ومع ذلك يبدو أن الجميع يزيدون الوضع ترديا. والحل الذى أراه يتمثل فى معلمين أفضل. فكيف السبيل إلى أن يكون المعلمون أفضل؟ بحصولهم على رواتب كرواتب المحامين والأطباء وموظفى البنوك الاستثمارية، فنجد فجأة أنبه الطلبة يختارون التدريس مهنة لهم. ويمكن تمويل ذلك بسهولة. وإلا سنبقى خائضين فى وحل شقائنا».
كلمة ومن أول السطر:
«بعدما تنجح ثورة التعليم التى نتمناها فى إخراج أجيال جديدة متعلمة ومحبة للثقافة سيتغير الوضع أكيد».
(نجيب محفوظ)