نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب مازن مجوز، تناول فيه اتجاه العديد من الشركات ــ متوسطة وكبيرة الحجم ــ إلى تقليص القوى العاملة بها نتيجة زيادة الاعتماد على التكنولوجيا، منوها باستحالة الاستغناء عن العمل البشرى، وذكر كذلك شروطا للحفاظ على الوظيفة... نعرض منه ما يلى:
تَرَكَت الصدمة الصحية والاقتصادية الناتجة عن كوفيدــ19 بصمتها على أهمية صقْل المَهارات وضرورة السَير بها، ومن المُتوقَع أن يحتاج نصف العاملين حول العالَم إلى صقْلِ مَهاراتهم أو إعادة التأهيل فى غضون السنوات الخَمس المُقبلة، مع ترسيخ هذا الاضطراب المُزدوِج لتأثيرات هذه الصدمة التى خلَفها الوباء والحاجة إلى المزيد من الأتْمَتَة.
وفى ظل التفاوُت الحاصل فى المَداخيل الآخذ فى الزيادة منذ سنوات، والمُتزامِن مع المَخاوِف حيال عمليات إلغاء الوظائف نتيجة لمُزاحَمة التكنولوجيا، توصَلت أحدث دراسة للمُنتدى الاقتصادى العالَمى بعنوان «مُستقبل الوظائف» إلى أن الروبوتات ستقضى على 85 مليون وظيفة فى الشركات متوسطة وكبيرة الحجم خلال السنوات الخمس المُقبلة، فيما تُسرِع الجائحة من التغيرات فى مكان العمل، الأمر الذى سيؤدى، على الأرجح، إلى تضاعُف هذه التفاوتات والمَخاوِف معا.
يأتى هذا فى وقت يعتقدُ الكثير من الخبراء، أنه خلال نحو أربعين عاما، سيتمكن العُلماء من إنتاج إنسانٍ آلى يشبه البشر إلى حدٍ كبير. ومن هنا، فإن هذه الدراسة الصادرة فى 21 أكتوبر 2020، رجَحت مجددا كفة ضرورة تدريب العامل من أجل اكتساب مهارات جديدة أو تحسينها.
فى الواقع، ثمة الكثير من الأدلة عن تأثيرات كوفيدــ19 لعل أبرزها افتتاح الصين فى 7 مارس الفائت مُستشفى يعمل بالروبوتات فى «ووشانج بووهان»، باعتماده على ستة أنواع مُختلفة من الأطباء الروبوتات لقياس درجات الحرارة، وتقديم وجبات الطعام، والقيام بجولات عبر حجرات المُستشفى وأجنحته وتنظيف المناطق المُصابة، للمساعدة فى علاج مَرضى فيروس كورونا وتخفيف الضغط على الطاقم الطبى.
المَهارات الجديدة أهم شروط البقاء فى الوظيفة
ربطا بنتائج الدراسة، فإن تساؤلاتٍ كثيرة تُطرح عن مُستقبل كثير من الوظائف المُتوافرة حاليا. ففى تركيا على سبيل المثال (دخلت حاليا فى التنافس الدولى فى إنتاج الروبوت واستخدامه) بدأ بعض الشركات بإنتاج روبوتات تقوم بتأجيرها للعمل فى مجالات وأماكن مُختلفة كالمطاعم والمستشفيات والمجمعات التجارية.
بالنظر إلى شروط بقاء العُمال فى أعمالهم ووظائفهم فى ظل لجوء أصحاب العمل إلى تقسيم أعمالهم بالتساوى بين البشر والآلات، فإنه يتوجب على نصف هؤلاء تعلُم مهارات جديدة، وفق ما تؤكِد سعدية زهيدى، المديرة الإدارية للمُنتدى الاقتصادى العالَمى، مُعتبرة أن جائحة كوفيدــ19 سرعت الانتقال إلى مُستقبل العمل.
هذه الرؤية تأتى لتُلقى الضوء مجدَدا على مُستقبل الوظائف، حيثُ تُحدِد الدراسة وظائف ومَهارات المُستقبل؛ كما وتتبع التغييرات التى تطرأ على سوق العمل، مُستندة إلى مسْحٍ تضمَن ما يقرب من 300 شركةَ عالَمية، يُبيِن أن المُدراء التنفيذيين فى أربعٍ من كل خمس شركات يُسرعون خطط رقْمنة العمل، ويطبقون تقنيات جديدة، ويُبدِدون مَكاسِب التوظيف التى حصلت منذ الأزمة المالية فى عامَى 2007ــ2008.
ووجدَ المسْحُ أن نحو 43 فى المائة من الشركات التى شملها، تستعد لتقليص القوى العاملة نتيجة التكامُل التكنولوجى، وأن 41 فى المائة منها تعتزم توسيع استخدامها للمُتعاقدين، وبَحَثَ 34 فى المائة منها رفْع قوة العمل نتيجة التكامل التكنولوجى. وبصورةٍ أشمل توصَل المُنتدى إلى أن «أكثر من 97 مليون وظيفة ستنشأ فى اقتصاد الرعاية فى الصناعات التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعى وإنشاء المحتوى»، لافتا إلى أن المَهام التى سيحتفظ البشر فيها بميزتهم التنافسية تشمل الإدارة والاستشارات وصنْع القرار والتفكير والتواصُل والتفاعُل.
التفكير والابتكار أول المَهارات المطلوبة
فى لغة الأرقام أيضا يُقدِر التقرير أنه بحلول العام 2025، ستتراجع الوظائف الزائدة عن حاجة العمل من كونها تمثل 15.4% من القوى العاملة إلى 9%، فى حين ستنمو وظائف المُتخصصين من 7.8% إلى 13.5% من إجمالى قاعدة الموظفين فى الشركة المُستطلَعة آراؤهم خلالها.
ويأتى التفكير والابتكار فى المرتبة الأولى على قائمة أفضل 10 مهارات يعتقد أصحاب العمل أنها ستنمو فى غضون السنوات الخمس المُقبلة، لتُواصل الحفاظ على صدارة القائمة منذ النسخة الأولى لهذا التقرير والصادرة فى العام 2016. لكن التقرير (الدراسة) الحديث أدخلَ على القائمة المذكورة مَهاراتٍ جديدة مثل التعليم التفاعُلى، واستراتيجيات التعلُم، وحل المشكلات المعقدة، والتفكير النقدى والتحليل، والإبداع والمُبادَرة، القيادة والتأثير الجماعى، استخدام التكنولوجيا والمُراقَبة والتحكُم، تصميم التكنولوجيا والبَرْمَجة، المرونة وتحمل الضغوط، وحل المُشكلات والتصوُر، على التوالى من المرتبة الثانية إلى العاشرة.
الطفرة التكنولوجية: فوائد ومَخاطِر
فى إحدى المُقاربات التى يطرحُها الكاتب «دانيال ساسكيند»، الباحثُ الاقتصادى فى جامعة أوكسفورد والمُستشار السابق للحكومة البريطانية، فى كِتابه: «عالَم بلا عمل: التكنولوجيا، الأتْمَتَة، وكيف يجب أن نستجيب؟»، الصادر فى يناير 2020، تحت عنوان «عصر الرخاء»، يبدى اعتقاده أنه على الرغم من المَخاوف الناتجة عن التطورات التكنولوجية، إلا أنَ التقدُم التكنولوجى خلال المائة سنة المُقبلة، يُمكن أن يؤدى إلى تحقيق رخاء لم يسبق له مثيل، وسيقودنا إلى عالَم ذى عمل أقل للعنصر البشرى، «كما سيحل واحدة من أقدم مشكلات الإنسانية، وهى كيفية التأكد من أن كلَ شخص لديه ما يكفى للعيش، وتضييق الفجوَة بين مَن يملكون ومَن لا يملكون».
وبحسبِ الباحث نفسه، فإن هذا الرخاء سيُفرز ثلاث مُشكلات أساسية؛ تتمثل الأولى فى عدم المُساواة المرتبطة بكيفية توزيع هذا الرخاء الاقتصادى على كل فرد فى المُجتمع، فيما تتعلق الثانية بالقوة السياسية لتحديد مَن الذى يتحكم بالتقنيات المسئولة عن هذا الرخاء وبأية شروط، وتتمثل الثالثة بالمعنى، ومعرفة كيفية استخدام هذا الرخاء، ليس للعيش من دون عمل فقط، بل للعيش بشكلٍ جيد.
على مدى القرون القليلة الماضية، ساعدت التكنولوجيا العُمال على أن يُصبحوا أكثر إنتاجية من أى وقت مضى، ما أدى إلى ازدهارٍ اقتصادى غير مسبوق، ورفْع مستويات المعيشة العالَمية. فعلى سبيل المثال، نما الاقتصاد الأميركى 15241 ضعفا بين 1700 و2000. لكنْ لا يُمكننا التنكُر لوجهَى الطفرة التكنولوجية التى لا تزال تُواجهها الإنسانية اليوم. يقول د. خالد ميار الإدريسى رئيسُ «المَركز المغربى للدراسات الدولية والمُستقبلية«: «هذه الطفرة لا مثيلَ لها من حيثُ الفرادة والجودة والتعقُد والمَنافِع، ولكنْ كذلك من حيثُ تهديد المصير الإنسانى».
وفقَ الإدريسى، لا يختلف اثنان فى أن «الآلة الذكية» تقدِم للبشرية خدماتٍ عظيمة وكبيرة، بحيث هى بديل عن الإنسان فى القيام بأعمال شاقة وخطيرة هى توفير للجهد البشرى ووقاية للإنسان من آفات ومَخاطر العمل. وذلك فى مجالات مَدنية وعسكرية، مثل الإسهام (Drones) فى مُراقَبة الهكتارات من الأراضى، ورصْد التحولات الجيولوجية والمناخية فى مناطق نائية وصعبة الوصول، وكذلك إسهام الآلة الذكية فى مجالات التصنيع والتعدين واستخراج المَوارِد الطبيعية، بل القيام بمَهام فى الفضاء وسبْر أغواره.
وفى تعليقه على التنبيه الذى تضمَنته الدراسة من خطورة اكتساح الآلة الذكية لسائر مجالات العمل ومَيادينه والتهديد بضياع 85 مليون وظيفة، سواء بالنسبة إلى الشركات المتوسطة أم الكبرى يقول: «الآلة الذكية تتطور بشكلٍ كبير بفضل أبحاث الذكاء الاصطناعى، لكن الاستخدام المُكثَف فى مجال الصناعات التى توظِف عمالة كبيرة، تحمل أرباب المصانع على الاستغناء عن الإنسان وبالتالى الاكتفاء بالأتْمَتة Automatisation وهذا يشكل خطرا على العُمال وضياع فُرَص عمل كثيرة؛ وبالتالى تدنى القدرة الشرائية».
مَصيرٌ واعِدٌ للبشرية
بالعودةِ إلى المَهارات الجديدة التى ستنمو فى غضون السنوات الخمس المُقبلة، يبدو أنه لن يتمَ الاستغناء عن العمل البشرى، وخصوصا الإبداع والتفكير النقدى والابتكار والوظائف التى تفترضُ توافُر الذكاء العاطفى وحل المُشكلات المعقَدة غير الرياضية والحسابية.
وهناك اتجاهات فكرية تُحذِر من التطور المُفرط والفائق للآلة الذكية، وتُحذِر من نشوب حربٍ مُقبلة بين البشر وبينها، يُقابلها اتجاه «الما بعد إنسانى» الذى يدعو إلى الاحتفاء بعصر الآلات الهجينة التى ستُمكن الإنسان من تجاوُز ضعفه، بل تحقِق له الخلود.
ويتوقع كارزويل، صاحبُ كِتاب «الآلات الروحية»، بأنه «قبل نهاية القرن المُقبل لن تظل الكائنات البشرية هى أكثر الكائنات ذكاء ومَقدرة على كَوكب الأرض»، فهو يتنبأ بتفوق الآلات الذكية على الإنسان وبالتالى بروز وتشكُل حضارة ما بعد الإنسان. وتتجه الأبحاث فى الذكاء الاصطناعى للتحضير إلى ذلك، والاعتقاد بأن الآلة الذكية ستتمتع مُستقبلا بما يفوق الخصائص الإنسانية، فهى لن تُحاكى الذكاء الإنسانى، بل ستتجاوزه.
بدورهِ، يذهب ميشيو كاكو فى كِتابه «فيزياء المُستحيل» إلى كون الذكاء الاصطناعى والنانوتكنولوجيا والهندسة الوراثية والمعلوماتية، ستقود العالَم إلى تخطى حدود المُستحيل؛ ومن ذلك قُدرة الذكاء الاصطناعى على تجاوُز حدود قوانين الفيزياء المعروفة وسبْر أغوار الكَون المجهول وتمكين الإنسان من التحكم «المطلق» بالطبيعة. لكنْ، وفى المُقابل، تذهب فئة عريضة من المُفكرين إلى القول إن الطبيعة البشرية غير قابلة للتجاوُز، لأن الإنسان يمتلك خصائص تُميزه عن باقى الكائنات. كما أن الآلة الذكية مهما بلغت من تطوير ذاتها، فإنها لن تُضاهى ما خَلَقَ الله.
هكذا، البشرية فى سباقِ تحدٍ مع نفسها وقدراتها مع التكنولوجيا، لكنْ تبقى الآلة الذكية، مهما بلغت من تطورٍ و«تحديثات» من صنْع البشر. وفى ظل المَخاطِر الجمة (المُشار إلى بعض جوانبها آنفا)، فضلا عن احتمال صعوبة التحكُم ببعضها، فإن البشرية مُطالَبةٌ بالتفكير فى خلْقِ توازن بين مجال الآلة الذكية والميدان المحفوظ للإنسان، من أجل مصيرٍ بشرى واعِد.
النص الأصلى: هنا