غسيل المصطلحات - يحيى عبدالله - بوابة الشروق
الأربعاء 26 مارس 2025 7:09 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

غسيل المصطلحات

نشر فى : الثلاثاء 25 مارس 2025 - 7:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 25 مارس 2025 - 7:30 م

 

أطلقت الأدبيات الصهيونية على غزو يهود أوروبا لفلسطين، فى نهاية القرن التاسع عشر، مع ظهور الصهيونية السياسية، «ارتقاءً روحيًا»، وعلى الغزاة «طلائعيين» أو «روادًا»، وأضحت فلسطين، نفسها ــ كنعان سابقًا ــ «أرض إسرائيل»، وصار الاستيلاء على أراضى فلسطين «استنقاذًا وفداءً» لها، بالمعنى الدينى، وأصبح استيطانها ممارسة «للحق فى إرث الآباء»، وتحول مرج ابن عامر، الوادى الفلسطينى الخصيب، إلى «وادى يزرعئيل»، والحرم القدسى الشريف إلى «جبل البيت»، والضفة الغربية لنهر الأردن إلى «يهودا والسامرة». كم مهول من المصطلحات، التى جرى «غسلها» و«تبييضها»، بالضبط مثلما يفعل لصوص المال المسروق، حين يموهونه، ويبدلونه، ويدمجونه، ويطبعونه.

من المصطلحات، التى جرى إدخالها حتى على المثقفين، وليس مجرد «غسلها وتبييضها»، مصطلح «الترانسفير»، الذى يحلو لكثيرين استعماله. ربما اكتسبت الكلمة، بحكم الشيوع، معنى إكراه جماعة ما أو إجبارها على ترك مكانها، لكنها، تشير، فى الأصل الإنجليزى، إلى معنى الانتقال، طواعية، من مكان إلى آخر، وهى تُستعمل فى الخطاب الإسرائيلى، زورًا وبهتانًا، للتستر على معنى الطرد، والتطهير العرقى، شأنها شأن «الهجرة الطوعية» أو «الهجرة بالتوافق»، وما شاكلهما من مصطلحات مراوغة. يستعرض المقال، سياسة الطرد، التى تبنتها الحركة الصهيونية، ثم دولة إسرائيل لاحقًا.

• • •

لم يكن التطهير العرقى، كمفهوم أو كهدف، غريبًا على الحركة الصهيونية، إذ عبَّر كثير من قادتها، بوضوح، لا يقبل التأويل، عن ضرورة طرد السكان الفلسطينيين. إذ يعترف تيودور هرتسل، فى يومياته عام 1895م، قبل انعقاد أول مؤتمر صهيونى فى بازل بسويسرا عام 1897م، بسعى الحركة إلى طرد الفلسطينيين من أرضهم فى هدوء، وإلى تضييق مصادر الرزق عليهم: «علينا أن ننزع الأراضى التى ستُخصص لنا فى قطاعات الأرض (يقصد فلسطين/ «أرض إسرائيل») شيئًا فشيئًا من أيدى ملاكها.

نحن نسعى لنقل السكان (الفلسطينيين) الفقراء من دون ضجة إلى خارج الحدود، عن طريق توفير عمل لهم فى الأقطار التى سيُرَحَّلون إليها، لكننا سنمنعهم من القيام بأى عمل فى أرضنا نحن. لم يدع هرتسل إلى استعمال وسائل عنيفة للتخلص من السكان الفلسطينيين، لكن الزعيم الصهيونى، البريطانى، يسرائيل زنجفيل (1864 ــ 1926م)، الذى صنَّف سكان فلسطين إلى مواطنين مقيمين، ومهاجرين دخلوها مع الفتح الإسلامى، دعا، بوضوح، إلى استعمال القوة، ولم يتورع عن استعمال مصطلح الطرد، نفسه، أيضا: «نحن مضطرون لأن نكون على استعداد ــ إما لطرد القبائل المقيمة فى (البلاد) بحد السيف، مثلما فعل أجدادنا (يقصد الإبادة التى ارتكبها العبرانيون ضد سكان أرض كنعان، كما يصورها سفر «يشوع»)، أو معالجة مسألة هجرة السكان الأجانب، الذين هم مسلمون فى معظمهم…».

رأى كثير من الزعماء الصهاينة، فى واقع الأمر، أن الخيار الأنسب هو خيار الدولة اليهودية الخالصة، التى لا وجود فيها للعنصر الفلسطينى، ومن بينهم، يوسف فايتس (1890ـ 1972م)، أحد أبرز الناشطين فى مجال الاستيطان اليهودى، ومدير قسم الأراضى فى ما يُعرف باسم «الصندوق القومى الإسرائيلى» (مؤسسة صهيونية تأسست عام 1901م لجمع أموال من يهود العالم لشراء الأراضى فى فلسطين)، الذى كتب فى يومياته عام 1940م، ما يلى: «بيننا وبين أنفسنا يجب أن يكون واضحًا أنه لا مجال فى البلاد للشعبين سويًا [...] الحل الوحيد هو أرض إسرائيل، على الأقل أرض إسرائيل الغربية (أى فلسطين كلها ما غرب نهر الأردن)، وبدون العرب.

لا مجال هنا لتسويات، وليس ثمة وسيلة أخرى سوى نقل العرب إلى الدول المجاورة، نقلهم كلهم، باستثناء ربما من هم فى بيت لحم، والناصرة والقدس القديمة (مناطق بها تجمعات سكانية نصرانية وأماكن نصرانية مقدسة، خوفًا من إثارة حفيظة الغرب النصرانى) لا يجب إبقاء قرية واحدة، ولا حتى قبيلة واحدة. يجب أن يُوجَّه النقل إلى العراق، وسوريا وحتى إلى شرق الأردن. سنتدبر الأموال من أجل تحقيق هذا الهدف.

يقول المؤرخ الإسرائيلى، إيلان بابه: «عندما تنص حركة مثل الصهيونية، بشكل صريح جدًا، على أنها تريد دولة لجماعة عرقية واحدة فقط فى مكان توجد به جماعتان عرقيتان، وتقرر استعمال القوة من أجل تنظيف الأرض من الجماعة العرقية الأخرى، فإن المصطلح السائد فى القانون الدولى لوصف مثل هذه السياسة أو مثل هذه الأيديولوجية هو التطهير العرقى». تبنى الزعماء الإسرائيليون، بعد إقامة الدولة عام 1948م، النهج الصهيونى، ومارسوه، عملياً، بوحشية مفرطة.

• • •

فى الواقع، ما كان لدولة إسرائيل أن تقوم لولا التطهير العرقى الذى مارسته ضد الفلسطينيين. وثمة مؤرخون إسرائيليون يرون أن نكبة 1948م نموذج صارخ للتطهير العرقى، من بينهم، دانيئيل بلتمان، الذى قال، فى مقال بجريدة «هاآرتس» عام 2016م، تحت عنوان: «تطهير عرقى؟ نعم، فى 1948م»: «بدأ الهجوم العربى الشامل على إسرائيل فى 1948م نظرًا لأن إسرائيل انتهجت سياسة تطهير عرقى ضد الفلسطينيين، مشيرًا إلى أن معظم الفلسطينيين طُردوا وأجبروا على الفرار قبل غزو الدول العربية».

طردت إسرائيل فى 1948م نحو 700 ألف فلسطينى، تحت تهديد السلاح، طبقًا لمصادر إسرائيلية وعربية. يقول الدكتور، عمر الغبارى، الذى يعمل فى مؤسسة «ذاكرات»، المختصة فى التوثيق والتعريف بنكبة 1948م، إنه لولا حاجة إسرائيل إلى عمالة رخيصة، فى حينه، لطردت كل فلسطينى، فقد أبقت على 4000 فلسطينى فقط فى منطقة يافا الكبرى من أصل 100 ألف بسبب الحاجة إليهم فى تشغيل الميناء، وأبقت على ألف فقط فى اللد من أصل 40 ألفًا لأنهم كانوا عمالاً وموظفين فى محطة السكك الحديدية، وأبقت على ألف فقط فى الرملة من أصل 18 ألفًا، وعلى 3500 فى حيفا من أصل نحو 70 ألفًا، ولم تبق على فلسطينى واحد فى طبرية من أصل ستة آلاف، ولا على فلسطينى واحد فى صفد من أصل عشرة آلاف… إلخ.

• • •

وفيما يتعلق بالزعم القائل بأن الزعماء العرب هم الذين ناشدوا الفلسطينيين المغادرة، فإنه لم يثبت، أنه كانت هناك مناشدة، أصلا، من هذا القبيل. إنها فرية من جملة مفتريات، يرددها غير المدققين. كانت هناك بعض الحالات الفردية التى طلبت فيها الزعامات الفلسطينية المحلية من المواطنين المغادرة للحفاظ على أرواحهم، عقب هجوم عسكرى إسرائيلي. وهو تصرف طبيعى فى كل مكان قد تكون به مخاطر. لكن اللافت، أن الزعامات الفلسطينية تصرفت بإيحاء من الزعماء الإسرائيليين، أنفسهم، إذ يشير يجآل آلون (قائد "سرايا الصاعقة"، المعروفة باسم "البلماح"، ومن كبار قادة الجيش فى حرب 48م. شغل مناصب سياسية عديدة، من بينها: رئيس حكومة، ونائب رئيس حكومة، ووزير خارجية) فى كتابه "البلماح 2" إلى أنه جمع رؤساء البلدات اليهود، الذين تربطهم علاقات بالوجهاء الفلسطينيين فى قرى مختلفة وطلب منهم الإيعاز لهم بوصول تعزيزات عسكرية يهودية مهولة إلى منطقة الجليل وبأنها سوف تجتث كل قرى وادى الحولا، وتوجيه النصح لهم بمناشدة المواطنين الفرار فى الوقت المناسب. سرت الإشاعة فى الوادى وحققت المكيدة أهدافها كاملة". حاول آلاف من الفلسطينيين المسالمين، غير المسلحين، العودة إلى مدنهم وقراهم بعد انتهاء الحرب، لكن عودتهم اصطدمت بقرار اتخذته الحكومة الإسرائيلية فى يونيو عام 1948م يقضى بعدم تمكين اللاجئين الفلسطينيين من العودة، وباستعمال القوة من أجل منعها، فقتل وأصيب كثيرون منهم، طبقًا للقرار المشار إليه، وصُد وطُرد آلاف آخرون مجددًا بقوة السلاح.

• • •

اليوم، تستهدف إسرائيل التخلص من سكان القطاع. ترى أن الفرصة مواتية. أمنية قديمة، بالمناسبة. ليست وليدة اليوم، كما قد يُخيل. فقد حاولت الحكومة الإسرائيلية، بعد حرب يونيو 1967م، واستيلائها عليه، تقليص عدد سكانه، وتبنت خطة، بالفعل، لتحقيق هذا الهدف، تضمنت، الإبقاء، بشكل متعمد، على مستوى معيشى متدن فى القطاع، ومستوى مرتفع من البطالة، لدفع السكان إلى المغادرة، ومنحت حوافز للأسر والأفراد مقابل خروجهم من القطاع؛ ودعا رئيس الحكومة، فى حينه، ليفى إشكول، إلى «تجفيف القطاع» بحيث ينهار فيه قطاع الزراعة البائس، ويسود وضعٌ يجعل من الصعب على الغزاويين العيش فيه؛ وسعى وزير الدفاع، فى حينه، موشيه ديان، إلى تقليص عدد سكان القطاع من 450 ألفًا إلى 100 ألف، وهو رقم قدَّر أن إسرائيل تستطيع التعايش معه، لكن سعيه باء بالفشل.

 وطُرحت، بعد السابع من أكتوبر 2023م، مقترحات رسمية لطرد سكان القطاع، كان من أبرزها، المقترح، الذى قدمته وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية، جيلا جمليئيل، ونُشرت مسودته فى وسائل الإعلام لـ «نقل» سكان القطاع إلى مدن مصرية فى شمال سيناء، وهو ما أثار استياءً مصريًا؛ ومشروع القانون الذى قدمه عضو الكنيست، موشيه بيسل، من حزب الليكود، إلى الكنيست، لنقل سكان من القطاع إلى دول أخرى. وأخذت الفكرة زخمًا بعد تبنى الرئيس الأمريكى، ترامب، لها، حيث أنشأ وزير الدفاع الإسرائيلى، يسرائيل كاتس، إدارة خاصة لتشرف على نقل سكان القطاع عبر ميناء أسدود، ومطار رامون. إن نهج الاستئصال والطرد نهج أصيل فى الحركة الصهيونية، تبنته وطبقته دولة إسرائيل، فى الماضى، وما تزال تطبقه حتى يومنا هذا فى كل أرض عربية تحتلها، سواءٌ فى الضفة وغزة والقدس الشرقية أم فى الجولان وجنوب لبنان.

أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة      

 

يحيى عبدالله أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة
التعليقات