منذ بداية السنة الحالية أشارت تقديرات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إلى أن الضغط الاقتصادى الأمريكى على إيران سيبلغ ذروته فى يونيو ــ يوليو، وأن هذا الضغط قد يدفع باقتصاد الجمهورية الإسلامية إلى وضع صعب للغاية تخرج من جرائه وعلى خلفيته جماهير واسعة من الشعب الإيرانى إلى الشوارع فتهدد وجود نظام الملالى.
كان من الواضح أن القيادة فى طهران وقوات الحرس الثورى لن تجلسا مكتوفتى الأيدى حيال هذا، بل ستستخدم أى قناة يمكن أن تكون متاحة للالتفاف على العقوبات وتمييعها، وستستخدم أى رافعة يمكنها بواسطتها ممارسة الضغط على الولايات المتحدة لإلغاء العقوبات.
لم يدرك الإسرائيليون أن إحدى هذه الرافعات التى يفحص الإيرانيون إمكان استخدامها للضغط على إدارة الرئيس دونالد ترامب هى الصدام مع إسرائيل، من خلال مبعوثى إيران وبواسطتهما: حزب الله فى لبنان، الميليشيات الشيعية ومقاتلى الحرس الثورى فى سورية وفى العراق، بالإضافة إلى الجهاد الإسلامى الفلسطينى و«حماس» فى قطاع غزة. ولا تتوافر، حتى اللحظة، معلومات تفيد بأن هذا سيحصل وشيكا، لكن إسرائيل مستعدة لذلك.
لن يجد الإيرانيون مشكلة فى تنفيذ التهديد، إذ حتى لو تطور إلى حرب شاملة، تبقى أغلبية الاحتمالات أنه لن يورط إيران فى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة أو مع إسرائيل. ستدور هذه المواجهة بعيدا عن الأراضى الإيرانية وستكون خسائرها فى الأرواح، من الجنود والمواطنين.
فى المقابل، ستتكبد إسرائيل خسائر كثيرة فى الأرواح وأضرارا مادية جسيمة، نتيجة وابل الصواريخ والقذائف الكثيفة والمدمرة التى ستُطلق من لبنان، وسورية وقطاع غزة على المناطق الداخلية فى إسرائيل.
منذ صعوده إلى سدة الحكم سنة 1979، أثبت نظام الملالى فى طهران أن رجاله فنانون فى الدمج بين رافعات الضغط العسكرية والسياسية، المباشرة وغير المباشرة، على نحو يخدم أهداف إيران الاستراتيجية. طبقا لهذا النهج، قرر الإيرانيون أخيرا أن دول الاتحاد الأوروبى هى الحلقة الأضعف فى المعسكر الغربى، ولذا فهى تشكل الرافعة الأساسية التى ستقوم إيران بتشغيلها من أجل تحقيق هدفها الاستراتيجى المتمثل فى رفع العقوبات الأمريكية عنها، من دون التنازل عن البنود المهمة بالنسبة إليها فى الاتفاق النووى مع الدول العظمى، ومن دون التوقف عن تطوير صواريخ بعيدة المدى.
لقد حددت إيران مهلة أخيرة للأوروبيين لتعويضها عن الأضرار الاقتصادية التى تسببها لها العقوبات التى فرضها عليها ترامب. حاول الاتحاد الأوروبى الاستجابة إلى الطلب، لكنه فشل فشلا ذريعا، لأن الشركات الأوروبية خضعت للضغوط الأمريكية وأوقفت المعاملات التجارية مع إيران. لذا انتقل الإيرانيون إلى المرحلة التالية.
فى المرحلة الثانية والتى بدأت قبل ثلاثة أسابيع، نفذت عناصر مرتبطة بإيران، وضمنها القوة البحرية التابعة للحرس الثورى والمتمردون الحوثيون فى اليمن، عمليات تفجيرية استهدفت ناقلات النفط التى كانت تنقل النفط من السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى أوروبا وآسيا. وفجر الحوثيون، عبر طائرات من دون طيار، منشآت نفطية سعودية. كان الهدف زعزعة الاستقرار الأمنى فى منطقة الخليج وتهديد عمليات تصدير النفط من دول الخليج العربية.
هكذا يشكل الإيرانيون تهديدا للسعودية، حليفة الولايات المتحدة التى تحتاج إلى النفط الآن أكثر من أى وقت مضى، فيما هم يسببون، من جهة أُخرى، ارتفاع أسعار النفط فى السوق العالمية، الأمر الذى يؤدى إلى ضخ أموال إلى الخزينة الحكومية التى تفرغ بسرعة فى طهران.
فى المقابل، تهدد إيران بالتوقف عن الوفاء بتعهداتها بموجب الاتفاق النووى. لا يدور الحديث هنا حول خروقات جدية، أو حول تحقيق اختراق مباشر نحو السلاح النووى، وهو ما قد يثير غضب الأوروبيين والروس عليها، وإنما يدور حول انحرافات بسيطة لا يمكن اعتبارها خرقا جوهريا، لكن فيها ما يكفى لجعل الأوروبيين يتخوفون من مغبة اضطرارهم، هم أيضا، إلى فرض عقوبات ضد طهران خلال الوقت القريب، وهو ما سيعود بالضرر غير المباشر على اقتصادياتها هى أيضا، وربما تدفع الولايات المتحدة، وإسرائيل والسعودية أيضا إلى اتخاذ إجراء عسكرى ضد المشروع النووى الإيرانى.
فى المرحلة الثالثة، يأتى دورنا نحن. التصعيد المحسوب الذى تفحص إيران إمكان إشعاله بواسطة مبعوثيها من شمال إسرائيل ومن جنوبها الغربى، يهدف فى نهاية الطريق إلى بث الخوف بين الأوروبيين خصوصا، وفى الحلبة الدولية عموما، من مغبة اندلاع حرب شاملة وشيكة فى الشرق الأوسط. الأوروبيون وعمالقة الصناعة الآسيويون مقتنعون بأن حربا شاملة فى الشرق الأوسط ستؤدى إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز فى السوق العالمية بصورة جنونية، وهو ما سيؤدى بالتالى إلى حصول انهيار اقتصادى عالمى يعود بالضرر على الاقتصاد الأوروبى وعلى الدول الأُخرى الحليفة للولايات المتحدة وشريكاتها التجارية الأساسية، ثم على اقتصاد الولايات المتحدة نفسها أيضا.
الأوروبيون، غير الراضين أصلا عن انسحاب ترامب من الاتفاق النووى مع إيران الذى وقعوه هم أيضا، سوف يلجؤون إلى هذه الحجة، تحديدا بهدف ممارسة الضغط على الرئيس الأمريكى للتخفيف من وطأة الحصار والعقوبات الاقتصادية على إيران. وقد يستجيب ترامب إليهم، لأنه هو أيضا ــ كما يعلن جهرا ــ لا يريد حربا مع إيران بل فى الشرق الأوسط كله، لا تكون الولايات المتحدة شريكة فيها بصورة مباشرة.
فى الإمكان تفهمه. إنه يريد دفع الإيرانيين إلى طاولة مفاوضات يجرى من خلالها تعديل الاتفاق النووى وتصحيحه، ولا يريد إعادة جنود أمريكيين أٌرسلوا لحماية ناقلات نفط سعودية فى مضيق هرمز إلى البيت فى توابيت. إن صور الجنود الأمريكيين المصابين خلال تأدية مهماتهم فى الخليج الفارسى لن تفيد ترامب، بأقل تعبير، فى معركته الانتخابية لفترة رئاسية ثانية.
إذا، ثمة مصلحة حقيقية فى الوقت الراهن لإيران فى المبادرة إلى احتكاك حربى مع إسرائيل يُشعر الأوروبيين بالضغط، فيتحركون لممارسة الضغط على الرئيس ترامب من أجل تخفيف العقوبات على طهران التى ستبدى نوعا من الرضى وتعود إلى مائدة المفاوضات وهى تمسك فى يدها، مسبقا، تعهدا بعدم مطالبتها التنازل عن مطالبها بشأن تخصيب اليورانيوم بكميات كبيرة وتطوير صواريخ بالستية.
على إسرائيل أن تكون مستعدة لمواجهة ذلك.