يحلم معظم كبار الصحفيين الأمريكيين ممن يعملون فى صحف كبرى مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال بالكتابة يوما فى مجلة النيويوركر The New Yorker.
ومنذ سنوات سألت صديقى الصحفى الراحل أنتونى شديد (توفى أثناء تغطيته لأحداث سوريا لصحيفة نيويورك تايمز فى 16 فبراير 2012) وحاصل على جائزة، والذى عمل وكتب لوكالة أسوشيتد برس وواشنطن بوست ونيويورك تايمز وغيرها عما يريد أن يتوج به مسيرته الصحفية، وكان رده أن أكتب يوما فى مجلة نيويوركر. ورغم حصول أنتونى شديد على أرقى الجوائز الصحفية فى العالم، كجائزة بوليتزر عن تغطيته لغزو العراق، إلا أن أحلامه كانت الكتابة فى مجلة النيويوركر. ويدل ذلك ببساطة عن المكانة الفريدة للمجلة والتى تبعدها كثيرا عن أى مجلة أخرى أمريكية أو غير أمريكية.
***
ارتبطت النيويوركر بمدينة نيويورك التى يشار إليها كعاصمة العالم الإعلامية، فهى تحتضن أكثر الاستديوهات التليفزيونية إنتاجا، وأكبر دور النشر إصدارا، وأهم الصحف تأثيرا. وتعد مجلة النيويوركر من أهم ما تصدره المدينة للعالم. ركزت المجلة الأسبوعية فى البداية على الحياة الاجتماعية والثقافية بالمدينة، كما كانت موجهة فى الأساس لجمهور الطبقة الراقية المحلى.
وبعدما اتسع نطاق الموضوعات التى تغطيها المجلة، بدأت فى جذب جمهور أكبر من خارج المدينة، وأصبحت صوتا مسموعا بين الصحافة الأمريكية الجادة. وتغطى حاليا هذه المجلة، التى تصدر 47 مرة فى العام، عددا متنوعا من الموضوعات المتعلقة بالحياة فى المدينة، والولايات المتحدة، والعالم. أسس الصحفى الأمريكى هارولد ولاس روس المجلة عام 1925. وبوحى من المجلة الفكاهية جودى، حاول روس تصوير ثقافة الإبهار والتقدم الحضارى لمدينة نيويورك، بابتكار مدخل جديد وإبداعى «للمجلة الفكاهية». وظل روس محررا للمجلة حتى وفاته فى عام 1951. وتلاه عدد من المحررين الكبار.
وحمل غلاف أول عدد للمجلة الصورة، التى أصبحت شهيرة الآن، التى يظهر فيها شخص متأنق (من أبناء الطبقة الراقية) رافعا نظارته ذات العدسة الواحدة لفحص فراشة. وقد عرف هذا السيد المتأنق باسم «يوستاك تيلى»، وهى شخصية ابتكرت خصيصا للمجلة. ومنذ أن رسخت هذه الصورة نبرة المجلة المثقفة بفاعلية شديدة، أصبح الآن استخدام تلك الصورة فى الاحتفال بالعيد السنوى للمجلة فى 12 فبراير من كل عام تقليدا متبعا. ومع ذلك فإن «يوستاك تيلى» ما هو إلا شخصية من عدة أعمال فنية ابتدعت لتصوير ثقافة مدينة نيويورك ومعرفتها وسحرها. وقد كانت هذه الأغلفة وما زالت تقدم موضوعات متنوعة كالعرق، والدين، والطبقة الاجتماعية، والثقافة السياسية. ومن خلال العرض المبدع للتعبير الفنى، استطاعت ذى نيويوركر توصيل رسالة مؤثرة بشكل فريد وفعال إلى جمهورها.
وعند بداية ظهور المجلة كانت تنشر عددا من القصص القصيرة كل أسبوع، أما الآن فتنشر قصة واحدة فى كل عدد، وأصبحت تغطى تدريجيا مجالات أوسع تشمل، الشئون الجارية، والأدب، ومقالات واقعية تغطى جميعها العديد من الموضوعات المتنوعة. كما تقدم المجلة عدة أقسام مختلفة، مثل «ما يدور فى المدينة» وهو قسم يستخدمه العديد من السائحين، والسكان المحليين على حد سواء كدليل لكل ما يجرى فى مدينة نيويورك، حيث ينشر قائمة بالأحداث الثقافية والترفيهية التى تجرى بالمدينة. أما أهم أقسام المجلة، ويسمى «حديث المدينة» فيعرض تقارير محببة وخفيفة تشمل قصصا وعروضا للكتب والأفلام والفنون والموسيقى والمسرح. وغالبا ما يعرض هذا القسم أشعارا، ورسوما كاريكاتيرية، و«لمحات شخصية»، أو حتى «رسائل» من مراسلين أجانب.
***
ومنذ ولادة المجلة اهتمت بالأحداث الجارية، والهجاء الساخر. وفى الوقت الذى لم تفقد فيه المجلة للحظة روح الفكاهة التى تتميز بها، فإنه بنهاية الحرب العالمية الثانية، احتلت النيويوركر مكان الصدارة بين الصحافة الجادة والخيال. وبالرغم من اهتمامها فى الأساس بجمهور الطبقة الراقية المحلى، فقد زاد عدد قراء المجلة وشعبيتها بسرعة كبيرة داخل البلاد وخارجها. وظلت المجلة فى الأساس ليبرالية مستقلة، لا تنتمى لأى حزب، وحتى وقت قريب لم تظهر المجلة أى تحيز لأى مرشح سياسى. إلا أنه فى العام 2004، ولأول مرة فى تاريخها أيدت المجلة مرشحا رئاسيا.
فخلال الحملة الرئاسية فى هذا العام أيد بشدة كاتب التحقيقات هيندرك هيرتزبيرج، والمراسل السياسى فيليب جورفيتش المرشح الديمقراطى جون كيرى الذى كان مرشحا ضد الرئيس الجمهورى جورج بوش. وفى خمس صفحات تحريرية وقعت باسم «المحررين» أيدت المجلة كيرى، فى حين استهجنت سياسات إدارة بوش، وأثنت على كيرى، واتهمت إدارة بوش بالفشل والغرور وعدم الكفاءة.
***
لم تبعد النيويوركر رغم تألقها عن الجدل. لكن حتى هؤلاء الذين يزعمون «كراهية» المجلة لما يسمونه «الهراء الرنان» لا يتوقفون عن قراءتها. فحتى الآن لا شىء يعوق هذه المجلة الأمريكية الشهيرة عن الوصول إلى القمة، وبالنسبة للبعض، خاصة من أهل نيويورك، فإنهم يعتبرونها الأفضل فى العالم.
وجذبت النيويوركر الأضواء والاهتمام العربى عندما ركزت على موضوعات معاملة السجناء بسجن أبو غريب أثناء الاحتلال الأمريكى للعراق، والسجون السرية التى تديرها وكالة المخابرات الأمريكية فى عدة دول عربية، وانتهاكات معتقل جوانتانامو. وأخيرا نشرت المجلة تقريرا مثيرا عن نيويوركر عن «28 صفحة فى تقرير سرى يتهم السعودية بدعم غير مباشر لهجمات 11 سبتمبر».
تبقى هناك شكوى دائمة من قراء المجلة الورقية تتعلق بصغر حجم الحروف والكلمات! إلا أن محررى المجلة يعتقدون أن ذلك جزء من تراثها وهويتها. ولم تتأثر مبيعاتها الأسبوعية البالغة 1.1 مليون نسخة، ولا تواجدها الإلكترونى والذى يجذب لها 4.7 مليون قارئ أسبوعيا بهذه الانتقادات. ويمثل التحدى الأهم أمام المجلة هو محاولاتها لجذب جمهور أصغر عمرا من القراء، والحفاظ على وجودها ضمن أهم 500 موقع أمريكى على شبكة الانترنت.