رحلة إلى خليج العرب - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الأربعاء 27 أغسطس 2025 2:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

رحلة إلى خليج العرب

نشر فى : الثلاثاء 26 أغسطس 2025 - 7:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 26 أغسطس 2025 - 7:13 م

 من الصباح الباكر، غادرتُ الإسكندرية متَّجهًا غربًا إلى «خليج العرب»، وهو ذلك التقوُّس المتوغِّل من البحر المتوسط فى شمال الصحراء الغربية. لو استخدَمنا لغةَ الأدب والخيال فإنَّ خليجَ العرب هو الردُّ الثأرى على دلتا النيل، فالدلتا تتوغَّل من اليابس فى البحر، أما هذا الخليج فتوغَّل من البحر فى اليابس.

إذا نظرتَ إلى ساحل المتوسط المصرى ستَجده يسعى إلى العدالة والمساواة؛ فكلُّ مكسب تأخذه اليابسة من البحر فى شكلِ رءوس متوغِّلة فى البحر المتوسط تُقابله محاولةٌ تَعويضية من البحر للتوغُّل فى اليابس فى شكلِ خلجان. والعكسُ صحيح. الأمور ليست على هذه الصورة المبسَّطة، فهناك قوانين فى الجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية على أسسٍ بِنيوية من صدوعٍ والتواءات، وتراجع البحر، عبرَ ملايين السنين خَلقت لنا ما نراه الآن من تَناغم بين البر والبحر.

لو أنى لا أعرف الخريطةَ الذهنية لظننتُ أنَّ المسافة التى قطعتُها أمس بسيارة الأجرة من الكيلو 21 شرقًا إلى «سيدى عبد الرحمن» غربًا تمتدُّ فى خطٍّ مستقيم وليس فى قوسٍ عميق. فالطريق الساحلى أصبح ــ بفَضل جاذبية رأسمال القرى السياحية ــ يمتدُّ فى خط انسيابى ناعمٍ ممهَّد بحارات متعددة وجسور للدوران ورَبطٍ بالمحاور الإقليمية.

ينسب خليجُ العرب إلى بلدة «برج العرب»، وهى مَنسوبة بدَورها إلى القبائل العربية التى تسكن غرب الدلتا. لكنَّ العرب هم موجةٌ حديثة على الخليج، فالمراكزُ العمرانية فى المنطقة أقدمُ من العرب بقرونٍ بعيدة، فقدماءُ المصريين أسَّسوا هنا مراكزَ وتركوا آثارًا عدَّة سار على هَديها الغزاة اللاحقون من اليونان والرومان والعرب والعثمانيّين والأوروبيّين.

خليجُ العرب إقليمٌ جغرافى بالغُ التَّفرد، وصار فيه خطُّ الساحل اليوم واحدًا من أغلى خطوط السواحل فى العالم فى ثروتِه العقارية. الأرقام التى يتمُّ تَداولها هنا فَلكية، وتعبِّر عن تَوغل وتَغوّل واضح من أجل «تَسليع» البحر والشاطئ والرَّمل. لعلّى من القلائل الذين عَرفوا «خليج العرب» وهو بعدُ سلسلةٌ من المستنقعات والبِرك والملّاحات والكثبان الرملية ومَزارع التين وحدائق الزيتون والليمون وحقولِ الشعير. فلقد بدأت مَسيرتى فى الجامعة بإعدادِ رسالة الماجستير عن هذا الخليج فى الفترة من 1993- 1996.

اليوم، وبعدَ مرور ثلاثة عقودٍ لا أصدقُ نفسى وأنا أرى 20 برجًا شاهقًا فى العلمين الجديدة تحتلُّ مواقعَ كثبان رملية ومستنقعاتٍ مِلحية قديمة. العلمين الواقعةُ على مسافة 100 كم من الإسكندرية تحمل اليومَ مسمَّيات عقارية مدهِشة للغاية. ها قد عشتُ إلى اليوم الذى أرى فيه أعجوبةً عمرانية: أبراج على نَمط دبى، أسماء إنجليزية وإيطالية للتجمُّعات السياحية والسكنية الحصرية لقرى وكومباوند مُحرَّم على غير أهله المساسُ بأسواره.

وقفتُ بُرهة أتأمَّل مسمَّى كومباوند سياحى يحمل اسمَ «الحى اللاتينى». طاف بى الخيالُ وأخذتنى الذكرياتُ إلى الحى اللاتينى فى وسط باريس، والذى كان قِبلةً للمثقفين والرسّامين والفنانين والكتّاب. من الطريف جدًّا أن أجدَ الحى اللاتينى هنا فى «خليج العرب» بدلًا من أن نسافر إليه فى باريس. لكن هل ستَظهر حقًّا فى خليج العرب الأرواحُ الباريسية؟

أكملتُ جَولتى البَصرية خلف التجمعات السياحية البديعة، وبينى وبينها أسلاكٌ شائكة وحواجزُ خَرسانية مانعة. تحسَّست أقدامى وتذكرتُ عام 1993 حين كنت أمشى هنا خطواتٍ وراء خطوات أغوص فى طينِ المستنقعات والرمال البيضاء الناصعة. لقد بدأتُ حياتى المهنية من هنا.

الجغرافيا المحرَّمة!

لا يوجَد فى علم الجغرافيا موضوعٌ بهذا الاسم، ولو أننا نُصادف كلمة «أماكن محرَّمة» فى عديدٍ من دول العالم التى تَنتشر فيها الفضاءاتُ «الحَصرية» التى يَحرم على غير أصحابها الدخولُ فيها. فى المدن الجديدة مثلًا لدينا تجمعاتٌ عمرانية مُغلقة بأسوار وأفرادِ أمنٍ لا تسمح بدخول غير الأعضاء، وعلى كورنيش النيل أماكنُ مُغلقة تسدُّ النظرَ على المارة فلا يروْن النيل إلا إذا كانوا أعضاء فى هذه الجهة أو تلك أو يتحمَّلون دفعَ فاتورة باهظة الثمن فى مطعم فاخر.

وما يزال فى بكين عاصمةِ الصين مسمَّى «المدينة المحرَّمة» إشارةً إلى تلك المنطقة بالغةِ الجمال والخُضرة والمعمار البَهى، والتى كانت بعضُ فَضاءات جغرافية منها ملكًا حصريًّا للإمبراطور وحاشيتِه، ومحرَّم على الشعب الاقترابُ منها، لكنها اليوم أصبحت متاحَة حرَّة مَشاع للجميع.

تداعتْ على رأسى هذه الأفكارُ خلال رحلتى من الإسكندرية إلى رأس الحكمة مرورًا بالعلمين والضبعة. معالمُ الطريق الشهيرة تبدأ بالعجمى وأبو تلات وسيدى كرير، ثم الحمَّام وبرج العرب، وصولًا إلى العلمين. 100 كم متَّصلة من القرى السياحية المحاطَة بأسوار مَنيعة وحراسة وبوّابات تحرِّم الدخولَ على غير أعضائها.

الوصولُ إلى العلمين يُدهشك فجأةً بظهور مدينة جديدة ذاتِ أبراج تحاكى ناطحاتِ السحاب فى المدن الميجابوليس، ولكنَّ المدهش أن ناطحاتِ السحاب هذه أقيمَت هنا على الساحل الصحراوى. على الوجهة البَحرية قامت العلمين الجديدة بتَقليد قرية مارينا من حيث تَغيير خطِّ الساحل بشقِّ بحيرات وإقامة حواجز أمواج. مدينةُ العلمين الجديدة تمثِّل من حيث الإمكاناتِ النظرية نقلةً عمرانية مهمَّة فى الساحل الشمالى لمصر، ويبقى السؤالُ دومًا: ما المركبُ الإنتاجى الذى سيُعيل هذه المدينة؟. الواضح حتى الآن أنَّ المدينة ستكون للخدماتِ الترفيهية والتعليمية. لكن من دون ظَهير زراعى أو صناعى أو إنتاج يعيل المدينة.

طيلةَ أربعين سنة مضَت كان الظهيرُ الجغرافى الصحراوى فى منطقة العلمين مَفتوحًا لكلِّ أشكال التَّطوير والتنمية دون أن تَحدث خطواتٌ عملية، وكانت الدولة تتحجَّج تارة بنَقص مياه النيل وضَعف مياه الأمطار، وتارةً أخرى بعَوائق وجود مناطق الألغام المتخلِّفة من الحرب العالمية الثانية، والتى ترفضُ بريطانيا تسليمَ مصر خرائط توزيع الألغام فيها، حين فَرش الإنجليز هنا مساحاتٍ هائلة من الألغام لرَدع قوات ثعلب الصحراء روميل القادم من ليبيا مُستهدفًا احتلالَ الإسكندرية. 100 كم من العجمى إلى العلمين، جغرافيا محرَّمة حَولتِ الساحلَ المفتوح الحرّ إلى ساحل حَصرى على فئةٍ من الأثرياء.

وقد داهَمنى خاطرٌ خلال رحلتى تلك أنَّ هذه الجغرافيا هنا على الساحل تعيد إنتاجَ الحدود المحرَّمة للسَّرايات الباشوية القديمة فى الريف المصرى قبل 100 سنة. وبالتالى فنحن لسْنا بصدد «عودة الروح» بقَدر ما نحن بصَدد «عودة الإقطاع». الإقطاع فى اللغة يعنى: أرضًا مَقطوعة لأناسٍ دون غيرهم، وهو ما يَحدث بالضَّبط فى تمليك أرض الساحل الشمالى لفئةٍ دون غيرها.

كتَبنا مرارًا وقلنا للطلاب فى المحاضرات الجامعية كلامًا نظريًّا لا يجدون له تطبيقًا عمليًّا، وهو أنه لا بدَّ من الحفاظ على الساحل أو قطاعاتٍ منه لعموم الشعب، وأنَّ البحر والرمل ملكٌ للشعب جميعِه دون إقطاع لفئةٍ دون أخرى. المشكلة أنَّ الجغرافيا الرأسمالية تجاوزتِ العلمين إلى سيدى عبد الرحمن.

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات