لن يدخل الانسحاب الإسرائيلى من كل الأراضى اللبنانية حيز التنفيذ فى موعده، وآلاف السكان الذين كانوا موعودين بالعودة إلى منازلهم هذا الأسبوع سيضطرون إلى الانتظار فى أماكن إقامتهم المؤقتة من دون معرفة متى سيُعطى الضوء الأخضر من أجل عودتهم. وتدّعى إسرائيل أن الجيش اللبنانى لم يفِ بالتزاماته وفق ما ورد فى الاتفاق، ولم ينزع قواعد حزب الله، ولم يجمع سلاحه، وكان الرد اللبنانى أنه ما دامت إسرائيل موجودة فى عشرات القرى فى جنوب لبنان، فإن الجيش اللبنانى لا يستطيع أن يتحرك فيها، ويضيفون فى لبنان أنه فى الأماكن التى انتشر فيها الجيش اللبنانى، جمع كثيرا من السلاح، ونقله إلى مخازنه.
ولقد سبق أن انسحبت إسرائيل من عدة بلدات احتلتها، لكن التأجيل الأخير يثير شكوكا كثيرة فى أن إسرائيل تنوى الاحتفاظ بعدة مواقع لوقت طويل، وهذه المواقع يمكن أن تتحول إلى نقاط احتكاك وذريعة لرد عنيف من طرف حزب الله، سيواجَه بردّ إسرائيلى، ومن هناك الطريق قصيرة نحو انهيار وقف إطلاق النار.
وتتخوف الدول الوسيطة من أن هذا الوجود الدائم لا يتسبب فقط بتعريض وقف إطلاق النار للخطر، بل أيضا ينسف المرحلة التالية من الاتفاق، والتى استنادا إليها فستبدأ الدولتان فى المفاوضات على ترسيم الحدود البرّية بينهما، وهى خطوة من المفترض أن تنهى فصلا من النزاعات الإقليمية بينهما يشمل 13 نقطة موضوع خلاف استخدمها حزب الله طوال أعوام كذريعة لمحاربة إسرائيل بحجة تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلى.
وفى غضون ذلك، يبدو حزب الله، الذى تجنب دخول مواجهات مع الجيش اللبنانى، يغير لهجة تهديداته؛ ففى بداية الأسبوع، حذّر على فياض ــ نائب لحزب الله فى البرلمان اللبنانى ــ من أن «حزب الله ينتظر يوم 26 من هذا الشهر، اليوم الذى ستستكمل إسرائيل فيه سحب قواتها بالكامل». وأضاف: «إن عدم إكمال إسرائيل انسحابها من أرضنا ضمن المهلة المقررة، وعدم قيام اللجنة الدولية بدروها المفترض لإلزام العدو بذلك وفقا للإجراءات التنفيذية للقرار 1701، يشكّل معطًى شديد الخطورة، ويهدد مسار الالتزامات والاتفاقات التى وافقت عليها الحكومة اللبنانية... وهذا الوضع الجديد يضع اللبنانيين فى مواجهة مرحلة جديدة تفرض اعتبارات جديدة عنوانها المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلى بكل الوسائل والطرق من أجل إخراجه من أرضنا. هذه المواجهة هى مسئولية كل اللبنانيين، حكومة وجيشاً وشعبا وكذلك مسئولية الأحزاب المعارضة لحزب الله».
وفى يوم الجمعة، أصدر الحزب بيانا جديدا حذرا وأكثر اعتدالا جاء فيه: «كل خرق لفترة 60 يوما سيعتبر انتهاكا خطرا للاتفاق، ومسًّا بالسيادة اللبنانية على أراضيه [أى لبنان] يتعين على الدولة مواجهته بكل الوسائل والطرق».
لكن هذا «الموقف المراقب» الذى يقفه حزب الله الآن يضع الحكومة اللبنانية فى موضع اختبار، ليس فقط تجاه سكان جنوب لبنان، بل أيضا كدولة يجرى «السخرية» منها عبر خرْق اتفاق وقّعته من دون أن ترد على ذلك بما يتناسب. وهذا الموقف يزيد من أهمية حزب الله كونه التنظيم الوحيد الذى يعرف كيف يواجه إسرائيل ويستطيع تهديدها. ومن هنا، فإن هذا الموقف يجعل كل مطالبة بنزع سلاح حزب الله هو تهديد لأمن لبنان، ولا سيما أن حكومته لا تزال غير قادرة، بحسب حزب الله، أو مؤهلة للنجاح فى اختبار الدفاع عن حقوقها وسيادتها.
وهذا الاختبار الخطِر يأتى فى وقت خطا فيه لبنان خطوته الأولى نحو قيام حُكم جديد هدفه إصلاح الدولة وإنقاذها من الأزمة الاقتصادية العميقة التى تعانى جرّاءها منذ 5 سنوات. إن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهو جوزيف عون، بعد عامين من الفراغ الرئاسى، والموافقة السريعة والاستثنائية على تعيين قاضى محكمة العدل الدولية نواف سلام فى منصب رئيس الحكومة المكلف، هما خطوتان مهمتان على الطريق السياسى المملوء بالألغام، لكن لا تزالان بعيدتين عن خطة عمل قابلة للتحقيق.
ويسعى نواف سلام للتوفيق بين تطلعه إلى تشكيل حكومة «تكنوقراط» لا يخضع فيها توزيع الحقائب للتوزيع الطائفى المعتاد، ومعرفة سلام الثمن السياسى لإرضاء التمثيل الطائفى، وبالتالى تجنُب العوائق التى تعترض خطة الإصلاحات الهيكلية. وهذه الإصلاحات، فى النظام المصرفى والبنك المركزى وشركة الكهرباء والمؤسسات الحكومية الأُخرى، والتعديلات والقوانين الاقتصادية وآليات الرقابة على عمل إدارات ووزارت الحكومة هى شرط أساسى تفرضه الدول المانحة والمؤسسات الدولية لتقديم المساعدات.
لكن لبنان ليس الوحيد الذى يقف فى الصف أمام صندوق الدول المانحة؛ فسقوط نظام بشار الأسد بين يدَى أحمد الشرع زعيم "هيئة تحرير الشام" جعله الشخص المميز لدى أغلبية الدول العريبة والغربية، وجعله رصيدا استراتيجيا، لأنه يُعتبر الكابح المركزى للنفوذ الإيرانى والروسى فى المنطقة. ومن المنتظر أن تكون غزة مركزا تاليا لجذب الاستثمارات العربية والدولية، بسبب الحجم الهائل للدمار، ولأن إعادة إعمار غزة هى جزء من اتفاق وقف إطلاق النار وتحرير المخطوفين.
أمّا لبنان، وعلى الرغم من تعرضه لخسائر تقدَر بـ13 مليار دولار، وهناك مليون وربع المليون من سكانه نزحوا من منازلهم، فإنه لا يُعتبر «منطقة كوارث» تفرض تدخُلا دوليا سريعا. كما أن الأهمية الاستراتيجية للبنان لا توازى أهمية سورية، والمفارقة أن الضربة التى تعرض لها حزب الله، والتى حولته من تنظيم يفرض سياسته على لبنان ويشكّل تهديداً إقليمياً ويجر لبنان إلى حرب، إلى تنظيم يكافح الآن دفاعاً عن مكانته السياسية، قللت من الخطوة التى يمثلها لبنان إقليمياً، وبالتالى من ضرورة إنقاذه.
تسفى برئيل
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية