يقول «سون تزو» فى كتابه الشهير فن الحرب: إن أولئك الذين يرغبون فى القتال يجب عليهم أولاً أن يفهموا التكلفة.
• • •
لقد تعقدت الحرب الحديثة لتصبح مسرحا لتفاعلات الصناعة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد وتدفقات رءوس الأموال، بصورة غير مسبوقة فى حروب القرن الماضى. أصبح الاقتصاد يلعب دورا أكبر فى مختلف تلك التفاعلات، حتى إن التكاليف الاقتصادية للحروب يمكن أن تحسم بشكل مبكّر مصير الحكومات التى تخوضها، وقرارات الحرب والتهدئة والسلام. كما أن كثيرا من المعارك الدائرة اليوم لا يمكن أن تحسمها الجيوش الكبرى المدججة بآليات عسكرية تقليدية، إن هى خلت من إمكانيات اقتصادية توجّه بذكاء نحو بدائل أقل تكلفة وأعلى مرونة وتقنية، وتوفّر لها بعض الرقائق الدقيقة التى تتحكم فى عملية توجيه الصواريخ، وتحسم الحروب والصراعات..
إن استبدال «سيرجى شويجو» وزير الدفاع الروسى بالخبير الاقتصادى والتكنوقراط «أندريه بيلوسوف»، منتصف مايو الجارى، يسلط الضوء على أهمية مواءمة الإدارة الحكيمة لموارد الدولة، والطاقات الصناعية، وسلاسل التوريد، والقتال الاقتصادى مع الاستراتيجيات العسكرية. اختيار القيادة السياسية الروسية لـ«بيلوسوف» له دلالات كبيرة على أن الإدارة الاقتصادية للمعركة العسكرية ربما ترجّح الكفة الروسية فى الحرب.
إن إضعاف قدرة الخصم على تمويل العمل العسكرى صار عملاً محوريا فى الحرب الحديثة. وأدى استهداف روسيا للبنية الأساسية الصناعية والزراعية، إلى جانب تشريد القوى العاملة، إلى انخفاض الإنتاج الأوكرانى بنسبة 30% إلى 35%. وارتفعت تقديرات تكلفة إعادة البناء إلى حوالى 500 مليار دولار. وسوف تحتاج أوكرانيا إلى إعادة هيكلة ديونها الدولية البالغة 20 مليار دولار لتجنّب التخلف عن السداد.
• • •
على الجبهة الفلسطينية أنفقت إسرائيل ما يقدّر بنحو 1,4 مليار دولار على الذخيرة والوقود (حوالى 6% من موازنتها الدفاعية السنوية) لصد الهجوم الإيرانى المخطط، والذى لم تتجاوز تكلفته 30 مليون دولار وفقا للتقديرات. مما يعيد إلى الذاكرة الهجمات الإرهابية فى الحادى عشر من سبتمبر 2001، والتى تكلفت أقل من 500 ألف دولار، لكنه أدت إلى خسائر تقدّر بتريليونات الدولارات، عند أخذ تكلفة الإنفاق الدفاعى والأمنى المتزايد فى الاعتبار.
يمكن للكميات الكبيرة من الأسلحة «الغبية» منخفضة التكلفة أن تجبر القوات - المجهّزة بشكل أفضل - على إنفاق موارد كبيرة لتحقيق مكاسب عسكرية محدودة. الهدف هو إضعاف العدو اقتصاديًا، وتمديد الصراع ضد رغبة المعارضين لخوض حروب طويلة الأجل.
من الصعب - مثلاً – تشغيل وصيانة طائرات إف-35 التى تبلغ تكلفتها حوالى 150 مليون دولار. كما تبلغ تكلفة أنظمة الدفاع الجوى باتريوت أكثر من مليار دولار، ويكلّف كل صاروخ اعتراضى ما بين 6 ملايين إلى 10 ملايين دولار إضافية. الدبابات القتالية الثقيلة يكلّف كل منها 6 ملايين إلى 10 ملايين دولار. وكثيرا ما تكون تكلفة الأسلحة الغربية ضعف تكلفة نظيراتها الروسية والصينية. وقد أثبت الكثير منها عدم فعاليته فى ظل ظروف المعركة الفعلية، عندما يقوم العدو بتعديل تكتيكاته.
• • •
ذكر تقرير صادر عن وكالة موديز للتصنيف الائتمانى إن الحرب المستمرة تكلّف إسرائيل 269 مليون دولار يوميا. واستند التقرير إلى دراسة أولية أخذت فى الاعتبار تقديرات وزارة المالية الإسرائيلية. وهذا يعنى أن الحرب كلّفت إسرائيل قرابة 62 مليار دولار منذ اندلاعها فى السابع من أكتوبر 2023 وحتى اليوم.
وقد انكمش الاقتصاد الإسرائيلى بنسبة ربما تصل إلى 20%. وتخطط الحكومة الإسرائيلية لجمع حوالى 60 مليار دولار من الديون هذا العام، وزيادة الضرائب لتلبية احتياجاتها المالية العامة. وتضاعف متوسط مبيعات السندات الشهرية ثلاث مرات بعد اندلاع الحرب، بحسب تقديرات بلومبرج، التى أشارت إلى أن الحكومة جمعت نحو 55,4 مليار دولار منذ أكتوبر 2023، من الأسواق المحلية والدولية.
وقد ذكر البنك الدولى فى تقرير حديث أن الوضع المالى للسلطة الفلسطينية التى تدير الضفة الغربية تدهور فى الأشهر الثلاثة الماضية «مما يزيد بشكل كبير من خطر الانهيار المالى». وأضاف أن «الفجوة الآخذة فى الاتساع بسرعة بين الإيرادات والنفقات العامة الأساسية، تؤدى إلى أزمة مالية». وحتى نهاية عام 2023، وصلت هذه الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار. ومن المتوقع أن تتضاعف خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1,2 مليار دولار.
إن حرص قوات الاحتلال على محو غزة المجهدة والفقيرة بالموارد، لا وزن له من الناحية الاقتصادية، باستثناء طرد السكان لتمهيد الطريق أمام الاستيطان الصهيونى. وقد أدى فقدان الأيدى العاملة الفلسطينية رخيصة الأجر، إلى الإضرار الشديد بأعمال البناء والزراعة فى إسرائيل. كما أدى استدعاء جنود الاحتياط للخدمة العسكرية وهروب الخبرات، بسبب تداعيات الحرب، إلى تعطيل الصناعة وحركة الإنتاج. وقد استلزمت المناوشات على الحدود الشمالية إجلاء حوالى 60 ألف إسرائيلى، مما أدى إلى خلل اقتصادى وارتفاع تكاليف إعادة التوطين. كما أدت تكلفة الصراع إلى زيادة كبيرة فى رصيد الدين العام الإسرائيلى وخفض تصنيفها الائتمانى.
وإذ تعتمد أوكرانيا وإسرائيل على الداعمين الغربيين للاستمرار فى الحرب الدائرة اليوم على الجبهتين، فذاك دليل آخر على الدور المتزايد لتدفقات الأموال والمساعدات الذكية (الموجّهة نحو نوعية معينة من التسليح والتجهيز) فى إعادة توجيه دفة الصراعات. فقد قدّمت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسى والحلفاء الآخرون لأوكرانيا ما يزيد على 175 مليار دولار من المساعدات العسكرية والمالية والإنسانية، مموّلة فى المقام الأول عن طريق الاقتراض الحكومى. حتى إن العديد من الدول الأوروبية تنتهك حدود العجز والديون التى فرضها الاتحاد الأوروبى فى هذا السياق. أما إسرائيل، ذات الدخل المرتفع، فقد كانت منذ تأسيسها أكبر متلق تراكمى للمساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية (300 مليار دولار معدّلة وفقا للتضخم) ذلك فضلا عن ضمانات القروض. لكن الكثير من التدفقات التى اعتادت إسرائيل تلقيها باتت معرّضة للتوقّف، بسبب القوانين المحلية التى تحظر على الدول المانحة تقديم المساعدات العسكرية للدول التى تنتهك حقوق الإنسان.
• • •
إن تسليح الاقتصاد ليس بالأمر الجديد، لكن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا لم تكن تحقق أهدافها المنشودة، لأن العديد من الدول ساعدت فى التحايل عليها بسبب الحوافز المالية والأيديولوجية القوية. إن عقودا من العزلة والحذر من الغرب حدت بكل من روسيا والصين إلى الاستعداد لهذا النوع من العقوبات عبر مزيد من الاكتفاء الذاتى، مع اعتماد محدود على سلاسل التوريد الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالمواد الخام الأساسية. لكن الاقتصادات المنفتحة على العالم الخارجى بشكل كبير، مثل إسرائيل، أكثر عرضة لانخفاض الاستثمار الأجنبى والعقوبات التجارية، كما حدث من قبل مع نظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا.
على المستوى الإقليمى، تسببت حرب غزة فى انخفاض عائدات السياحة فى كل من الأردن ومصر ولبنان. كما تضررت حركة المرور عبر قناة السويس بصورة كبيرة بفعل هجمات الحوثيين على السفن العابرة لمضيق باب المندب. وتضررت (بشكل مؤقت) إمدادات الغاز الطبيعى إلى أوروبا عبر أحد خطى الغاز الإسرائيليين. فى حين واجهت المملكة العربية السعودية صعوبة فى جذب تدفقات الاستثمار الأجنبى إلى مشروع «نيوم» العملاق، الذى يحظى باهتمام بالغ من القيادة السياسية للمملكة، ومن شأن تيارات الهجرة الناتجة عن الحرب والصراعات الإقليمية الأخرى، أن تعمّق من زعزعة استقرار الاقتصاد الإقليمى، مع احتمال امتداد تلك الآثار عبر المتوسط.
ويشكل عدم الاستقرار الإقليمى مخاطر جسيمة على الاقتصاد العالمى. منذ بداية الحرب فى غزة، تضاعفت تكلفة نقل حاوية من الصين إلى أوروبا أربع مرات، كما أضافت ما يصل إلى أسبوعين من وقت السفر.. ويعتبر ملف الطاقة أحد أهم تجليات الضرر العالمى الناشئ عن الحرب، إذ تمتلك دول الخليج 30% و21% من احتياطيات النفط والغاز الطبيعى العالمية على التوالى. وتعتبر أسعار الطاقة شديدة الحساسية لتطورات الأحداث على مختلف جبهات الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى، خاصة كلما تورطت إيران بدرجة أكبر فى هذا الصراع.
• • •
كل ما سبق هو فقط بعض من التكاليف الاقتصادية المباشرة للحروب الحديثة، لم نذكر فى سياقها تكاليف فقدان الأرواح والإصابات والأضرار النفسية.. وذلك مما يصعب تقديره بشكل دقيق على أية حال.