الحظر لن يؤدى إلى اختفاء الفكرة؛ فكرة شمولية الإسلام التى ميزته عن غيره من الشرائع، ولن يؤدى لاختفاء أفراد يؤمنون بها، فبأى شىء يستفيد الحاظر؟ ومن يعاقب بمادة ٍكهذه؟
أعتبر نفسى من ألَدِّ خصوم المتاجرين بالشريعة الإسلامية عن عمد كانت تجارتهم أو غُرر بهم، هؤلاء الذين يريدون أن تكتسب آراؤهم وتوجهاتهم بل وذواتهم قداسة نصوص الوحى وهيبة التنزيل، بحيث لا يسع مسلما إلا متابعتهم.. ومن قبل كتبت لهم «سأنتقدك لأنك لست الإسلام» و«قداسة المنهج... لا الأشخاص والهيئات!» و«أيها الشتامون...لستم دعاة» وغيرها....وموقنٌ أنا أن الشريعة الإسلامية ليست حكرا على فرد بعينه أو جماعة بمفردها، لذا فمن حق كل المسلمين ألا يحظر عليهم الاحتكام إلى شريعتهم فى كل مناحى الحياة لمجرد أن ثلة منهم قد أساءت أو فرطت.
ومن يتابع الجذور التاريخية لنشأة مفهوم «فصل الدين عن الدولة» على الأقل فى بلادنا العربية سيتبين أن تحريفا واضحا قد طرأ على المفهوم التاريخى الأصلى الذى ينص على «The separation of church and state» أى فصل الكنيسة عن الدولة... وشتان بين العبارتين فى المقدمات والنتائج بلا شك.
ويكفى للتدليل على البون الشاسع بين المفهومين، العودة بالذاكرة الإنسانية إلى الوراء بضعة قرون لنقارن بين حال الأندلس تحت حكم الخلافة الإسلامية العربية فى أوج قوتها أو حتى فى عصور اضمحلالها من ناحية ازدهار العلوم والفنون وتطور الطب والعمارة وبين سائر بلدان أوروبا التى كانت ترزح تحت حكم بابوات نصبوا أنفسهم ومن يرضون عنه من الملوك آلهة لا ترد آراؤهم ولا تُناقش أوامرهم، يحرمون الطب ويكفرون العلماء ويعاملون البشر كالحيوانات أو أحطّ... المقارنة السريعة التى يُمكن أن نجريها حتى بعقولنا اللاواعية دون اضطرارٍ للغوص فى أعماق المراجع التاريخية تجعلنا نتفهم ثورة الأوربيين وقتها على هذه السلطة الغاشمة.
ناهيك عن أن افتقار هؤلاء إلى شريعة حقيقية تفصل فى المعاملات البشرية من بيع وشراء وزواج وطلاق وزكاة وأحكام جنايات وقضاء وجهاد وغير ذلك لهو أمر حاسم فى رفض العقل الأوروبى هذه السيطرة المفتقرة إلى أساس يخول لها مجرد الكلام فى معاش الناس فضلا عن التسلط المريض الشهوانى على النحو المريع الذى تعج به كتب التاريخ.
الأمر مختلف تماما فى الإسلام.. وإن كانت سطور قليلة لن تفى بغرض شرح نماذج الآيات هذه (قُلْ إِنَّ صَلاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أو (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) وغيرها للتدليل على معنى الشريعة أصلا قبل الحديث عن كيف كان الإسلام أساس ازدهار مجتمعاته ودوله.. ولأنى أعرف أن الباعث الذى يتخفى وراءه الكثيرون فى مسألة حظر الأحزاب تلك هو الحذر من استبداد الرؤساء باسم الدين، فأنا مهتمٌ جدا بنقل نموذج لمواجهة انحراف الحكام من قبل علماء الشريعة فى واحدة من أسوأ عصور الدولة الإسلامية، تحديدا آخر سنوات الدولة المملوكية قبل حملة نابليون الاستعمارية، إذ ينقل لنا القدير محمد جلال كشك عن الجبرتى قصة معارضة الشيخ سليمان المنصورى لأمر السلطان لما حاد عن عرف الناس وما درجوا عليه فى مرافعةٍ دستورية طويلة اجتزأ منها قوله:».... وإن أمر ولى الأمر بإبطاله لا يُسلم له ويخالف أمره لإن ذلك مخالفٌ للشرع، ولا يُسلم للإمام فى فعل ما يخالف الشرع ولا لنائبه أيضا»... فكان أن قال الباشا: هذا أمر يحتاج إلى مراجعة!