ضمن صفحات مذكراته، كتب عظيم هوليوود مارلون براندو عن أفضل سنوات العمر. سأنقل عنه بتصرف لأننى لا أملك مكانته التى سمحت بتمرير لفظة خارجة تتعدى قواعد النشر العام:
«أقدمت فى عشرينياتى على مغامرات متهورة واستمتعت بها للحد الأقصى. كل مغامرة كانت بمثابة إهانة صريحة للعالم أجمع، ولم يهمنى شىء أو شخص.
بعد بلوغى الستين، أصبحت أكثر عقلا وهدوءا. لا أبالى بتصورات الآخرين، ولا هم يتوقفون عند هذا الرجل المتقدم فى السن.
لم أعد الشاب الذى كنته، ولا أخوض نفس المغامرات، لكنى مستمتع.
فى العشرينيات كنت سعيدا أحمق، وفى الستينيات كنت سعيدا لكن حكيم. فى المرحلتين لا أهتمّ أو أبالى».
• • •
لم أمر بمرحلة براندو الأولى فى عشرينياتى، ولم أصل بعد لتخطى الستينيات.
كان الثابت أننى أنتمى لبيت يملك بناء عقلى، ولا يملك تمويل حياتى مع من أحب.
أرهقنى إثبات النفس والجدارة. أسابق الزمن حرفيا، بشرط ألا أتخلى عن إجادتى قدر الاستطاعة والظروف.
أسست منزلا، ثم تركته. انتقلت إلى آخر، سافرت ثم عدت، من ميادين الحرب لميادين الثورة لاحقت الأحداث ولم أتوقف للراحة أبدا.
• • •
عند الخامسة والأربعين، قال لى أبى وصديقى: «خذ نفسك. ستعانى ما يسميه علم النفس الاحتراق الذاتى».
لم أتوقف، ولم أهدأ، قلت له مسرعا:
«لا يهم. أحب حياتى هكذا».
مضى على قراءة مذكرات براندو عقود.
ذكرنى بها الآن صوت محمود درويش:
«كم أنت حرٌ ومنسى فى خيالك».
كلاهما صاغ مشاعر الحرية وفقا لمفهومه.
براندو قرر التمرد، وعلى العالم أن يقبل، ودرويش طلب الحرية بالنسيان.
جاء صوته بقصيدته وأمامى على مكتبى ساعة رملية أقلبها كلما أردت سباقا معها فى شىء ما أفعله.
بدأت تأمل حبات الرمل، واكتشفت أنها خلاف ساعة العمر، يتم قلبها لتجدد القياس فقط، لكنها لا تجدد الطاقة ولا الزمن.
حروب، وزلازل، وإرهاب، وبدل الثورة ثورتان، وبدل رئيس واحد وراء القضبان رئيسان ، ثم إرهاب، ووباء..، وما يستجد من زلازل من صنع الإنسان.
كانت مهمتى دائما أن أستوعب، وأنقل، وأحاول الفهم مع الناس بعيدا عن أهوائى وأهواء من لا أعرف. هذا الجزء الأخير هو الأصعب.
مؤخرا، تحول كل هدوء يراه على شاشة مشاهد كريم ويشكرنى عليه توترا
وأعصابا عارية خلف الشاشة مع قريب أو حبيب.
مع ضيق النفس، يضيق الصدر بما كان قادرا على مواجهته من قبل. يبدو أن الاحتراق قد بدأ.
• • •
عزيزى القارئ..
إن كان ينطبق عليك بعض أو كل ما قرأت حتى الآن، من فضلك، حاول أن تتوقف. خذ نفسك.
لن يتغير العالم لو استهلكت روحك بلا طائل.
والأكيد، أننا نحتاج لعقول هادئة حتى نواصل مواجهة صور تحيط وتضغط من كل اتجاه.
ابحث عن شىء ممتع بسيط.
اهرب إلى أغنية أو كوب الشاى ، أو وجه تحبه، لكن استمتع به خارج نطاق العادة.
لماذا اخترت براندو ودرويش؟
الأول، أمريكى تمرد بطريقته على نفس ما نراه من زيف أمريكى اليوم، وميزه هو مبكرا جدا.
ولأن الثانى فلسطينى، بعد نضال، وسجن، وحروب، سمى المنفى وطنا، وبقى يكتب شعرا.
لا أملك قوة براندو، ولا موهبة درويش، لكن نصيحته الأبسط هى الأقرب لقدرتى.
صارت الإجازة على مرمى بصر، وسأبحث عن مقهى فى مكان بعيد، وأجلس منسيا وحرا فى خيالى.