صور من حياة لا نراها - شريف عامر - بوابة الشروق
الثلاثاء 2 سبتمبر 2025 9:29 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

صور من حياة لا نراها

نشر فى : الإثنين 1 سبتمبر 2025 - 6:05 م | آخر تحديث : الإثنين 1 سبتمبر 2025 - 6:05 م

تختنق النفوس بالعجز كلما تابعنا صور الموت قصفا وجوعا فى غزة.

يستمر نتنياهو المتفاخر دائما بأنه لا يتراجع عن هدفه أبدا، فى الحديث عن رؤية إسرائيل الكبرى، وقضم مزيد من الخرائط المبللة بدماء أصحابها.

على هذا المشهد، ننام ونصحو. يملأ الكلام الشاشات، وتلف الصور العالم. مثلكم، أصطدم بالصور ويرهق عقلى كثرة الكلام، لكنى أستدعى صورى الخاصة.

• • •

كانت الثالثة والنصف بعد ظهر نهار معتاد على حاجز قلنديا الفاصل بين القدس ورام الله. أعبر الحاجز مستخدما بطاقتى الصحفية كى ألحق بموعد بث تقريرى اليومى.

حصيلة تصريحات مسئولى السلطة الفلسطينية فى مقر «المقاطعة» حيث الرئيس عرفات، وصور للاشتباكات فى الجانب الآخر من البلدة مع قوة إسرائيلية توغلت لهدم منزل أو تغيير حدود قرية من قرى رام الله فى ممارسة تقليدية معتادة، يعقبها اشتباكات مع الشباب.

أتذكر الآن صورا احتوتها التقارير، وصورا أخرى قررت استبعادها. لو وضعتها لما صدقها أحد.

كيف يمكن استيعاب صورة مايكروباص صغير يحمل حوالى عشرة أطفال على الأكثر، وهو يمر قاطعا أحد المفارق فى لحظة اشتباك بين قوة إسرائيلية وشباب رام الله. هو طريقه الوحيد المفتوح بعد أن تكاثرت المستوطنات وتعددت الحواجز.

تتحرك مجموعة من الشباب جانب السيارة لعزلها عن أفراد القوة الإسرائيلية. يخفض الأطفال رءوسهم تحت النوافذ حتى تمر السيارة، ثم يعاودون الجلوس فى وضع معتاد، ويلوحون للشباب من خلف الزجاج.

قطع ذهولى صوت رائد، زميلى المصور وهو يجرى ليتابع استمرار الاشتباك، ويقول ببساطة: «بدنا العيال يتعلموا يا شريف».

• • •

فى الثامنة صباحا، وقفت أراقب الشباب يتوافدون على المكان. سمعت شابا منهم يحدث خطيبته على التليفون:

«والله بناضل شوية وبارجعلك»!

خلع قميصه وفانلته القطنية وتلثم بها لحماية وجهه من الغاز، ثم انصهر مع الشباب. حمل الحجر وألقاه، تقدم وتراجع، حمل مصابا أو جريحا، وربما شهيدا، بعيدا عن نقطة الالتحام، ثم عاد.

كرر ذلك ساعات النهار، ثم رأيته مساء فى نفس المطعم الذى أجلس فيه مع بقية الزملاء الصحفيين. كأن الدم لم يسل، والاحتلال غير موجود، وكأن الصباح كله لم يكن.

سنصدق هذا الشاب فقط عند سقوطه ودماؤه على الأرض تجري، لكننا لا نصدق أبدا ما كأنه قبل ذلك بلحظات. حتى عندما يسقط ، لن نقوى على النظر مباشرة إلى جثمانه الساخن على الطريق.

• • •

مع تكرار وجودى وسط الاشتباكات، تعلمت حيلة غريبة. عندما يجتاحك الخوف، إما أن تحدق فى نقطة بعيدة تماما عما يجرى حولك، وتتجاهل الموت المحيط بك، أو أن تنظر فى الكاميرا لو استطعت، أو تلاحق الزميل المصور فى حركته.

صورة الكاميرا وسيط بينى وبين الواقع. تلعب نفس دور الشاشة التى يتابعها المشاهد. تخفف الصدمة، وتمنحك طبقة عزل نفسية ـــــ ولو مؤقتة ــــــ عن بشاعة المشهد والدم النازف.

لكن العدسات مهما اختلفت أحجامها وزواياها، لن تنقل لك تفاصيل اليوم الفلسطينى. يوم تتلاصق وتتلاحق فيه مشاهد تتأرجح بين حياة وموت بما لا يمكن لعقل أن يستوعبه من بعيد.

تعيد الصور القديمة ملامحهم لذاكرتى كلما تابعت نقاشا عن غزة التى نراها فى الصور تموت صباحا مساء، أو يبدأ يومنا بعملية جديدة تشنها إسرائيل فى الضفة التى تقطعت أوصالها فصارت شظايا أرض متناثرة لوطن مفقود. فهمنا للصور من حيث نقف، لا من حيث يقف الفلسطينى العادى خارج إطار التنظيم أو الحركة.

• • •

يقاتل الفلسطينى بمجرد تردد الأنفاس. يصحو، وينام، ويتعلم، ويحب، ويبكى، ويضحك، ويتخذ قرار الحياة والموت فى كل لحظة من يوم متكرر لا يعرف كيف بدأ ولا كيف سينتهى.

صور التقارير التى نستهلكها يوميا من أرض الواقع محكومة بهذه العدسات التى تكشف زاوية واحدة ضمن زوايا كثيرة لا نراها، وإذا رأيناها لن نستوعبها.

حياة الفلسطينى خارج أى منطق نحاول إخضاعها له. لم أفهمها أنا أيضا إلا بعد تجربة عيش مؤقت مع العدو مثلهم.

كنت معكم أراهم بعيوننا، أرى المقاومة فصيلا وحركة، وتنظيما، وموقفا سياسيا. عدا ذلك رومانسية ساذجة، وبراءة لا تسمح بها أيام هذا الزمان.

• • •

أما هناك، فالمقاومة تفاصيل حياة بلا اسم أو لافتة عليها شعار. هكذا استعصت صورة عودتهم لشمال غزة على العالم وعلينا.

بعد ١٤ شهرا من القصف الكاسح، والقنص المتعمد والقتل أو الموت جوعا وحصارا كل ساعة، تلون أفق غزة بهم عائدين!

«مفيش إشى أرجع له، لكن راجع».

قالها أحدهم واستمر فى المشى.

لو لم أرَ هؤلاء بشرا بدون وسيط زجاجى يلمع بصورتهم على شاشة لما فهمت.

صاغها بكلمات أخرى بعيدا عن الشاشات وبحساسية الشاعر، الأبنودى العظيم فى قصيدة الموت على الأسفلت وسؤاله لصديقه ناجى العلى:

 

«غزة اللى حضنت السلك، وعشقت الحَزّة، مماتيتش، طب ما انت مُت، عرفت تتوفى؟».

 

التعليقات