فى خطابه أمام «مؤتمر المحاسب العام»، منتصف الشهر الحالى؛ أقر نتنياهو بالعزلة الدولية التى تحاصر دولة الاحتلال الإسرائيلى، نتيجة عدوانها المتواصل والمشين على قطاع غزة. ومن ثم دعا إلى تبنّى نموذج يمزج ما بين تجربتى أثينا وإسبرطة اليونانيتين؛ عبر تحويل تلك الدولة إلى مجتمع عسكرى مكتفٍ ذاتيا، يتحلى بالصمود والتضحية، مدعيا أن العزلة المتفاقمة ستضطرها إلى التكيّف مع اقتصاد ذى سمات أوتاركية، يجعلها «إسبرطة عظمى».
تنبعث دعوة نتنياهو المثيرة من تلاقٍ تاريخى بين تجربتى إسرائيل وإسبرطة. ففى كتابه تاريخ أباطرة الإغريق وفلاسفتهم، ذكر بلوتارك أن السلامة الطبية للمولود الإسبرطى كانت تُفحص فور ميلاده. فإذا كان سوىَّ الصحة والبدن، يتم تنشئته وتربيته، أما إذا كان ضعيف البنية فيُقتل، لأنه لن يصلح للمهمة التى خُلق لأجلها، وهى الحرب. ومن جهتها، استندت دولة الاحتلال إلى سرديات صهيونية توراتية تعلى من مبادئ القوة والقتل والغزو. وقد انطوت الهجرات اليهودية الأولى إلى أرض فلسطين منذ القرن التاسع عشر على ترجمة فعلية لتلك المبادئ؛ فعلى متن السفن التى كانت تقل أولئك المهاجرين، كان يتم التخلص من المرضى والعجائز والمعاقين وغير المؤهلين للمشاركة فى حروب الإبادة الجماعية الممنهجة. إذ دأبت العصابات الصهيونية مثل الهاجاناه وشتيرن وبلماخ على قتل الفلسطينيين أو إجبارهم على الهجرة بغية الاستيلاء على أراضيهم وبيوتهم.
وفى مؤلفه تاريخ الحضارة الهيلينية، ندد أرنولد توينبى بتفنّن إسبرطة فى التملص من التزاماتها وتعهداتها؛ وهى الصفة التى التصقت بدولة الاحتلال منذ تأسيسها عام 1948. وعلى نهج زئيف جابوتنسكى صاحب نظرية «الجدار الحديدى» التى تستبطن القوة الساحقة خيارا يبدد آمال العرب فى مواجهة المشروع الصهيونى، اعتبر ديفيد بن جوريون القبول بقرار التقسيم عام 1947 تكتيكا مرحليا على طريق الاستحواذ الكامل على أرض فلسطين التاريخية؛ مرورا باتخاذ الحاخام تسفى كوك وتلامذته الصهيونية الدينية أيديولوجية متكاملة تتعامل مع الاستيطان والزى العسكرى باعتبارهما رسالة إلهية؛ وصولا إلى نتنياهو وسموتريتش وبن غفير الذين يؤمنون بفرض «السلام من خلال القوة» وحتمية امتداد «إسرائيل الكبرى» من النيل إلى الفرات.
وفى سفره الموسوعى قصة الحضارة، يرى ويل ديورانت أن «إسبرطة العظمى» (900–371 ق.م) أمة بلا تاريخ، إذ طواها النسيان فور سقوطها، بعدما كانت مدينة عسكرية معزولة ومجتمعا طبقيا صارما مبنيا على نخبة محاربة تعتمد على اقتصاد زراعى مغلق قائم على طبقة العبيد. إلا أن نظامها العسكرى المغلق اتسم بالهشاشة وعدم الاستقرار؛ فعلاوة على القلق المستمر من انتفاضات العبيد، كانت قدراتها العسكرية تتآكل بسبب هروب المحاربين، حتى انهارت تماما عقب هزيمتها المروعة فى معركة «ليوكترا» عام 371 ق.م. وهو السيناريو الذى يتوقعه كثيرون لدولة الاحتلال الإسرائيلى التى ربما تنهار وتتوارى قبل إكمال عامها الثمانين، أسوة بسابقاتها من الممالك والدول اليهودية البائدة.
وبينما يراهن نتنياهو فى توسل صمود «إسبرطة الإسرائيلية العظمى» على «الدعم الترامبى» غير المسبوق، يبرر مؤيدوه دعوته المريبة للعزلة والعسكرة الإسبرطية بأن الأوتاركية تعكس قيم القوة والهيمنة، لا سيما أن إسرائيل تتمتع بالاستقلال الذاتى فى مجالات حيوية مثل المياه والطاقة والتكنولوجيا والسلاح. فى المقابل، انتقدها خبراء إسرائيليون كثر؛ فمن منظور العلاقات المدنية – العسكرية، يرون أن إسبرطة كانت مجتمعا عسكريا يتحكم فيه العسكريون الذين عكفوا على شن حروب لانهائية لا طائل من ورائها، حتى أنهكت وسقطت فى القرن الثالث ق.م.
فلقد ذكر المؤرخ الإغريقى الأشهر هيرودوت أن ملوك إسبرطة كانوا يحتكرون منصب الكاهن الأعلى، ولهم سلطة صياغة القوانين وتطبيقها، إضافة إلى الاستئثار بقرار إعلان الحرب. وفى مؤلفه الماتع دراسة فى التاريخ، ذكر أرنولد توينبى أن العبيد كانوا يزرعون بينما يتفرغ الإسبرطيون لفنون الحرب، فيما ينخرط أطفالهم من الجنسين فى دورات التدريب العسكرى منذ سن السابعة، بينما امتدت الخدمة العسكرية إلى 53 سنة. وفى كتابه السياسات، انتقد أرسطو دستور إسبرطة الذى ساعد على تفشى الرشوة والتضليل، فيما حرمتها العسكرة والأوتاركية من جنى ثمار السلام. وفى السياق ذاته، أخذ برتراند راسل بشهادة هيرودوت عن التربية الإسبرطية المشينة التى كرست الفساد والقتل والسرقة دونما رقيب أو حسيب.
ويجمع خبراء إسرائيليون كثر على أن «إسبرطة العظمى» التى عزلت نفسها وتبنت سياسة مسيانية عانت تدهورا اقتصاديا دفع مواطنيها إلى الهجرة. وبينما كانت تنشد النصر المطلق، أجهزت الحروب المتواصلة على قدراتها العسكرية والبشرية حتى ضعفت ثم هُزمت وتوارت. وبدعوته الإسبرطية، يبدو نتنياهو مسكونا بجنون العظمة، متشبثاً بالسلطة، متشبها فى ذلك بكل من هتلر وموسولينى. ويخشى أولئك الخبراء على دولتهم من سيناريو انهيار إسبرطة التى عاشت على أسنة الرماح وحد السيف وخوض الحروب العبثية فى اتجاهات شتى. وهذا ما تقوم به دولة الاحتلال فى محيطها الإقليمى منذ تأسيسها، حتى أضحت تكابد انقساما عميقا بين المستويات السياسية والعسكرية والاستخبارية. فبينما يطارد نتنياهو أوهام «النصر المطلق»، يرى منتقدوه أن تحويل إسرائيل إلى قوة عسكرية إسبرطية محصنة «نبوءة سوداء». إذ أدت حروبه العبثية إلى إرهاق اقتصادها، تزايد الاضطرابات الداخلية، انكماش الهجرة الوافدة، تنامى الهجرة العكسية، ارتفاع معدلات الانتحار بين الجنود العائدين من غزة، علاوة على تهرب آخرين من الخدمة العسكرية، والإضرار بسمعة إسرائيل وصناعاتها الدفاعية. إذ ألغت إسبانيا صفقة ثالثة لشراء أسلحة من إسرائيل بموجب قانون لحظر تجارة السلاح معها، على خلفية استمرار عدوانها على غزة.
وبمقاربة اقتصادية، يؤكد منتقدو خطاب «إسبرطة الإسرائيلية العظمى» استحالة تطبيق النموذج الأوتاركى، كون الاقتصاد الإسرائيلى موجهاً للخارج ومندمجاً بقوة فى الاقتصاد العالمى. إذ يعتمد على بيع العقول للعالم وشراء احتياجاته، بينما تعنى الأوتاركية أن تبيع إسرائيل العقول داخلياً وتنتج احتياجاتها كافة محليا، وهذا أمر مستحيل وسيخلف كوارث بعيدة المدى. فالصادرات هى عماد النمو الإسرائيلي، ما يستوجب تجنب الانكفاء إلى الداخل، وتعزيز قدرات التصدير، وتوسيع الاتفاقيات التجارية، وتوفير اليقين للقطاع الصناعي، مع ضمان تدفق المهاجرين من الخارج ولجم الهجرة العكسية. كما أن قطاع التكنولوجيا الفائقة، الذى يُعد عصب الاقتصاد الإسرائيلى، بات يعانى انكماشا لافتا، كونه يعتمد أساسا على الاستثمارات الخارجية والأسواق العالمية، علاوة على استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية. ومن ثم، يرون فرية نتنياهو عن «الأوتاركية» أو «إسبرطة عظمى» دليلاً على تخبطه جراء فقدان أدوات النفوذ التقليدية. وفى حين يحاول بعض مؤيديه تصويرها خيارا استراتيجيا، يراها خبراء نذيراً بتآكل مكانة إسرائيل عالميا وانهيار قدرتها على حفظ أمنها وإنعاش اقتصادها.
واستجابة لضغوط جماهيرية، أعلنت ألمانيا وقف إمداد إسرائيل بأسلحة يمكن استخدامها فى قطاع غزة. وبدوره، يدرس الاتحاد الأوروبى فرض أول حزمة عقوبات ضد إسرائيل منذ توقيع اتفاقية الشراكة بينهما قبل ربع قرن، بحيث تشمل تعليق بعض الامتيازات التجارية عبر إعادة فرض رسوم جمركية على ما يقارب 5.8 مليار يورو من الصادرات الإسرائيلية التى تشكل 37% من إجمالى صادرات تل أبيب للاتحاد، الذى يُعد شريكها التجارى الأول. الأمر الذى سيكبد منتجاتها الزراعية والتكنولوجية رسوماً إضافية تنال من تنافسيتها فى السوق الأوروبية. كذلك، عكست أنماط التصويت داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخراً تفاقم عزلة إسرائيل عالمياً، حيث انقلبت عليها دول طالما نافحت عنها وصوتت لمصلحتها فى المحافل الدولية. ما يعد مؤشراً على تآكل شرعيتها وتعاظم عزلتها الدبلوماسية، خصوصا بعدما لم يعد الحكم عليها مرتهناً بما تروجه من دعاية، بل بما ترتكبه من انتهاكات. فما عادت سرديات «المظلومية اليهودية» أو «معاداة السامية» تجدى نفعا فى استعطاف الرأى العام العالمي. وعلاوة على استبعادها من المشاركة فى فعاليات فنية وثقافية ورياضية غربية، ينادى مبدعون غربيون بمقاطعة إسرائيل بسبب عدوانها على غزة، أملاً فى تحقيق نجاح مماثل لما تمخضت عنه المقاطعة الدولية لحكومة جنوب إفريقيا العنصرية مطلع ستينيات القرن الماضى.
بـ«الوهم المستحيل»، وصف الكاتب الإسرائيلى درور مارمور مزاعم نتنياهو بشأن إمكانية مزاوجة إسرائيل بين نموذجى أثينا وإسبرطة؛ ذلك أن أثينا، التى كانت رمزا للديمقراطية والحضارة والازدهار فى كنف السلام، لا يمكن أن تتلاقى مع إسبرطة التى جسدت الانغلاق والفساد والعسكرة. وفى محاولة يائسة لاحتواء أصداء دعوته المشئومة، أعلنت مصادر مقربة من نتنياهو أن تصريحاته حول "إسبرطة عظمى إسرائيلية معزولة" كانت «زلة لسان»، وادعت أنه كان يقصد المطالبة بتعزيز الاستقلال الاستراتيجى لدولة الاحتلال عبر تكريس اعتمادها على إمكاناتها وقدراتها الذاتية فى شتى المجالات.