الضمانات الأمنية - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الأربعاء 27 أغسطس 2025 12:38 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

الضمانات الأمنية

نشر فى : الإثنين 25 أغسطس 2025 - 6:40 م | آخر تحديث : الإثنين 25 أغسطس 2025 - 6:40 م


تشكل الضمانات الأمنية، التى تعتصم بها كلٌّ من موسكو وكييف، بغية وقف الحرب المستعرة بينهما منذ فبراير 2022، وهندسة الترتيبات الجيوسياسية التى تستتبعها، معضلة استراتيجية تؤرق المعنيين بالأزمة الأوكرانية.
لا يمل الرئيس الأوكرانى تأكيد حاجة بلاده الملحّة إلى ضمانات أمنية تصون سيادتها ووحدتها، وتحميها من أى هجمات روسية مستقبلية. حيث يوقن زيلينسكى أن إبرام اتفاق سلام مع موسكو، لإنهاء الحرب الحالية، لن يثنيها عن معاودة غزو بلاده. لذا، رهن مشاركته فى أى لقاء يجمعه بنظيره الروسى، أو توقيع اتفاق سلام لإنهاء الحرب، بحصول بلاده على ضمانات أمنية صارمة ومستدامة. وانطلاقًا من تجارب تاريخية قاسية، تتوسم كييف فى تلك الضمانات تقويض التطلعات الروسية لغزوها مستقبلًا، لا سيما أن الروس يعتبرون أوكرانيا دولة مصطنعة أسسها البلاشفة.
ففى عام 1994، وافقت كييف على التخلى عن أسلحتها النووية مقابل ضمانات أمنية دولية. وبموجب مذكرة بودابست، تعهّدت الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولى ضمان سلامة الأراضى الأوكرانية واستقلالها السياسى، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها. وفى مايو 1997، وقّع الرئيس الروسى الأسبق يلتسين معاهدة صداقة مع نظيره الأوكرانى كوتشما، اعترفت روسيا من خلالها بحدود أوكرانيا ما بعد الحقبة السوفيتية. ولم تمنع أى من هاتين الاتفاقيتين العدوان الروسى على أوكرانيا. ففى عام 2014، استخدم الكرملين قواته المتمركزة بالقرم للاستيلاء على شبه الجزيرة وضمّها، بموازاة دعم المجموعات الانفصالية فى دونباس، قبل التوجّه لاحتلالها عسكريًا عام 2022.
رغم عدم وضوح معالم الضمانات الأمنية حتى الآن، كشفت وثيقة استخباراتية غربية عن «العرض المضاد» الذى قدّمه زيلينسكى لموازنة جنوح ترامب إلى تبنّى المقاربة الروسية لتسوية الأزمة، مع إقناع الغرب بأن أى اتفاق لا يقوم على قوة الردع والضمانات الأمنية سيكون بمثابة «هدية مجانية» لبوتين. وانطلاقًا من دعم أوروبى هائل، يرفض زيلينسكى التنازل عن أى أراضٍ لروسيا. فيما يتضمن عرضه المضاد حزمة مطالب استراتيجية، أهمها:
• حصول أوكرانيا على عضوية الناتو، كيما يتسنّى لها الاستفادة من المادة الخامسة من ميثاقه، المتعلقة بمبدأ الدفاع المشترك.
• مطالبة ترامب بإقناع الأوروبيين بقبول انضمام كييف للاتحاد الأوروبى، لنيل الدعم الاقتصادى والإفادة من الشراكة الأمنية الوثيقة بين التكتل والناتو.
• إلزام موسكو بتعويض كييف عن أضرار الحرب من خلال 300 مليار دولار من الأصول الروسية المجمّدة لدى الغرب.
• رهن تخفيف العقوبات عن موسكو بالتزامها الصارم بأى ضمانات أو اتفاقات.
• نشر قوات حفظ سلام متعددة الجنسيات فى أوكرانيا لردع أى توغلات روسية محتملة.
• تخصيص تمويل أوروبى قوامه مائة مليار دولار لشراء منظومات دفاع جوى أمريكية من طراز باتريوت، إلى جانب معدات عسكرية متطورة أخرى.
وتوخّيًا منها لتقوية جيشها ليغدو العمود الفقرى لاستراتيجيتها الردعية، فضلا عن تعزيز صناعتها الدفاعية بهدف تقليص اعتمادها على الدعم العسكرى الخارجى، تأمل أوكرانيا تلقى 50 مليار دولار لإنتاج مسيّرات هجومية، مستفيدة من خبرتها المتراكمة فى هذا المضمار. حيث تتبارى شركات أوكرانية ناشئة فى تطوير مسيّرات وصواريخ بعيدة المدى لنقل المعركة إلى داخل روسيا، التى تتحسّب كييف لحرب ممتدّة وضارية ضدها. وفى هذا السياق، احتفت كييف بنجاح تجربة اختبار صاروخ أوكرانى طويل المدى من طراز كروز «فلامينجو».
وردًا على مساعى موسكو لإشراك بكين فى الضمانات الأمنية المقترحة، انطلاقًا من خطة «المبادئ الأربعة» التى طرحها سابقًا الرئيس الصينى، أشهر زيلينسكى معارضته احتجاجًا على الدعم الصينى لروسيا طوال الحرب.
تحت وطأة ما يعتبرونه «تهديدًا روسيًا» لهم، يدعم الأوروبيون مطالب أوكرانيا بشأن الضمانات الأمنية التى لا تخصها وحدها بقدر ما تتعلق بأمن القارة الأوروبية جمعاء. إذ لا تعزّز قدرة كييف على الدفاع عن أراضيها فحسب، بل تطال هندسة النظام الأمنى الجديد فى القارة العجوز عقب انتهاء الحرب، والعلاقات بين جناحى حلف الناتو على طرفى الأطلسى، كما تؤسس لنظام أمنى عالمى جديد. لذا استهدف اجتماع واشنطن، الذى شاركت فيه قيادات أوروبا والناتو، تشكيل جبهة أوروبية أوكرانية موحّدة، وتأكيد مساهمة واشنطن فى الضمانات الأمنية التى تخوّل أوكرانيا الدفاع عن نفسها بشكل فعّال بعد التوصل إلى اتفاق سلام.
فى غضون ذلك، تتجه دول أوروبية، بالتنسيق مع واشنطن، إلى دراسة إمكانية نشر قوة طمأنة أمنية متعددة الجنسيات فى أوكرانيا، بعيدًا عن خطوط القتال، حال التوصل إلى اتفاق سلام مع روسيا، بهدف دعم استقرار البلاد وردع أى هجوم روسى مستقبلى دون الانخراط فى أعمال قتالية مباشرة. كذلك، يبحث الأوروبيون نشر مقاتلات أمريكية من طراز إف-35 بقاعدة جوية فى رومانيا، لمنح الحلف قدرة استثنائية على الردع والإنذار المبكر بجناحه الشرقى، وبسط الرقابة الأطلسية الكاملة على البحر الأسود، بما يجهض أى محاولة روسية لتوسيع نطاق الحرب.
يطارد ترامب تسوية مستعصية بأوكرانيا طمعًا فى إدراك «سعادة الدارين» عبر نيل جائزة نوبل للسلام ودخول الجنة. وبعدما كان يلقى بمسئولية الضمانات الأمنية على كاهل أوروبا وحدها، عاد وأكد استعداد واشنطن للمشاركة فيها حال توقيع اتفاق سلام مع موسكو. لكنه ناشد الدول الأوروبية تحمّل نصيب الأسد من تلك الضمانات، مشددًا على عدم التزام واشنطن إرسال قوات برية إلى أوكرانيا، واكتفائها بالقيادة والسيطرة عن بُعد، علاوة على تقديم دعم جوى للقوات الغربية التى ستنتشر فى أوكرانيا عبر تزويد كييف بأنظمة الدفاع الجوى، فرض منطقة حظر جوى بطائرات مقاتلة أمريكية، توفير المظلة الصاروخية الدفاعية، وتوسيع نطاق الاستطلاع الفضائى والجوى، على أن يتم توفير ضمانات بموجب المادة الخامسة من ميثاق الحلف الأطلسى لأوكرانيا دون مشاركة رسمية من الحلف. لكن حالة الإحباط التى تسللت إلى نفس ترامب مؤخرًا جراء تعثّر التسوية بعد قمة ألاسكا جعلته يلوّح بعدم المشاركة فى أى قمة قد تجمع بوتين وزيلينسكى.
تنطوى الضمانات الأمنية الغامضة، لا سيما مقترح نشر قوات لترسيخ وقف إطلاق النار فى أوكرانيا، على تحديات استراتيجية. إذ تثير تساؤلات فنية مثيرة بشأن الدول المشاركة فيها، شروط نشرها، قيادتها، صلاحياتها، مهامها، تسليحها، شرعية وجودها، أماكن تمركزها، أعباء تمويلها، وحيازتها «تفويضًا قتاليًا» للدفاع عن نفسها حال تعرّضها لهجوم. فعلى سبيل المثال، يواجه القادة الأوروبيون المتحمسون لها عقبات سياسية واقتصادية داخلية تقلّص قدرة بلادهم على إرسال قوات إلى أوكرانيا، ربما تضطر إلى الاصطدام بنظيرتها الروسية. وبينما يمكن لتركيا، بجيشها الضخم وخبرتها الجيوسياسية فى البحر الأسود، لعب دور محورى، تتخوّف اليونان وقبرص من السماح لها بتلقى دعم أوروبى لتحديث جيشها. وفى أمريكا، التى لم تبرأ بعد من تداعيات مغامرتى العراق وأفغانستان، يتوارى الحماس للانخراط فى التزام عسكرى طويل الأمد.
أما بخصوص عضوية أوكرانيا فى الناتو، والتى يعتبرها دستورها هدفًا استراتيجيًا، فقد استبعدها الأمين العام للحلف، مبدياً استعدادًا لتقديم ضمانات أمنية لكييف بموجب المادة الخامسة المعنية بالدفاع الجماعى، وهو أمر أبدت موسكو تقبلها له. وأثناء زيارته لكييف الجمعة الماضية، أكد أن بناء جيش قوى يجنبهم التعرض للغزو مجددًا، عبر التثبت من التزام روسيا باتفاق السلام وتخليها عن مطامع الاستيلاء على أراضٍ أوكرانية مستقبلًا، هو أقوى ضمانة أمنية يمكن تقديمها للأوكرانيين.
لطالما أصرّ بوتين على ضرورة مراعاة أى تسوية للأزمة الأوكرانية حزمة اعتبارات، أبرزها: مخاوف موسكو الاستراتيجية، أمن الناطقين بالروسية فى أوكرانيا، مبدأ «الأمن الجماعى غير القابل للتجزئة»، ومعالجة الأسس الجذرية للصراعات. وبينما أبدى بوتين تقبّله للضمانات الأمنية الغربية لأوكرانيا ضمن أى اتفاق سلام مستقبلى، فقد أكد أيضًا حاجة بلاده الماسّة إلى ضمانات أمنية موثوقة. حيث يرفض، بشكل قاطع، نشر قوات لدول الناتو فى أوكرانيا، بمجرد إدراك اتفاق سلام يُفترض أن يحظر النشاط العسكرى لدول ثالثة على أراضيها. لذا، لا تثق موسكو بأى ضمانات أمنية لأوكرانيا تغيب روسيا عن مناقشتها، أو لا تراعى مصالحها؛ كونها تعكس عدم رغبة كييف وحلفائها فى سلام راسخ ومستدام.
وتطالب موسكو بأن تستند تلك الضمانات إلى مسودة اتفاق عام 2022، التى كانت تمنح أوكرانيا ضمانات أمنية من دول شتى، لا سيما الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن. ومجدّدًا، أثار بوتين شكوكًا حول شرعية زيلينسكى الذى انتهت ولايته الرئاسية فى مايو 2024 دون أن يُجرى انتخابات رئاسية جديدة. وعبّر مسئولون روس عن قلقهم من أن يفضى توقيع زيلينسكى على اتفاق تسوية إلى إغراء أى رئيس لاحق بالتنصل منه بسبب افتقاد زيلينسكى الشرعية وقت توقيعه. وإبان جولته بمركز ساروف النووى، وجّه بوتين رسالة ردع حازمة أعلن خلالها مواصلة تطوير الترسانة النووية الروسية بما يواكب التحديات الأمنية المستحدثة. وأكد عدم سماح موسكو بتقويض توازن القوى إقليميًا ودوليًا، كما أشاد بالتقدم التقنى الروسى الذى سيتيح لبلاده تفوقًا استراتيجيًا يجهض أى محاولة لفرض الإرادة الغربية عليها.

التعليقات