وصلت أحوال مصر خلال العقود الستة الأخيرة إلى ترد وسقوط لا يستحقه الشعب. ويظهر ذلك بوضوح فى بيانات ومعايير التنمية البشرية والصحية والعلمية الدولية المحايدة. ويظل بقاء أكثر من 25 مليون مصرى لا يعرفون القراءة والكتابة، أضف إلى ذلك استفحال الأمراض المستعصية لدرجة وصول عدد مرضى التهاب الكبد الوبائى إلى 12 مليون مصرى، ومرضى السكر إلى 14 مليون مصرى دليلا على عمق هذا السقوط. وطبقا لمختلف التصنيفات المتخصصة تعد مصر «دولة متخلفة» أيضا فى مستوى الحريات العامة والتمتع بالحقوق، وهو ما لا يختلف كثيرا عن حال مستشفيات وطرق وجامعات مصر، ويدل ذلك كله على بعدنا الكبير عن تحقيق أى تقدم فى المستقبل القريب.
وعندما نتساءل لماذا تخلفت ليس مصر فقط، بل الدول العربية على مجملها لهذه الدرجة، تخرج علينا إجابات مختلفة مبررة الواقع الأليم، وداعية لبقاء الحال على ما هو عليه. إلا أن ما أشار إليه تقرير التنافسية العالمى لعام 2013 من أن مصر احتلت المرتبة الأخيرة بين الدول فى جودة التعليم الأساسى بحصولها على الترتيب الـ 148 من بين 148 دولة كان شديد الصدمة. وهو ما دعانى، وبعض الأصدقاء للبحث عن إجابة شافية عن السؤال التالى: ماذا جرى لمصر؟ وما السبب فى ذلك؟
•••
تعددت الإجابات بين من يلقى باللوم على موروثات ثقافية، أو آخر ممن يلقون باللوم على العامل الخارجى ودور القوى الاستعمارية التاريخية. ولم يخش البعض إلقاء اللوم على دور الدين، وطريقة استخدامه فى المجتمع، وهناك من ادعى أن أسباب تخلفنا هى مرض عضال يجرى فى الدماء العربية ليس له علاج.
وتختلف مصر مع ذلك الموجود فى الدول العربية الصديقة وغير الصديقة. ولا تدفع الخريطة الجيو-استراتيجية للدول العربية إلا لمزيد من الإحباط. فعدد غير قليل من دولنا العربية يرزح تحت تأثر لهيب حروب أهلية تأتى على الأخضر واليابس. فلسطين احتلت منذ أكثر من نصف قرن، واصبح الحديث عن تحريرها خيالا، السودان تم تقسيمه، وليس من المؤكد حتى استمرار دولة الشمال موحدة فى المستقبل القريب. سوريا تلتهب تحت زئير حرب أهلية لا يستطيع أحد إيقافها، ولا حتى تقدر أطرافها على حسمها عسكريا. ليبيا على شفا الانقسام والفوضى بين ميلشيات لم تستطع الاتفاق على مصالح الليبيين خلال السنوات الثلاث السابقة. الصراع المسلح فى الجزائر خلال فترة «العشرية السوداء» فقد على أثره أكثر من 200 ألف من أبنائها، إضافة لصراع مجنون لا يستفيد منه أحد مع المغرب حول إقليم الصحراء. موريتانيا لا تزال تعرف العبودية حتى اليوم، والصومال أصبحت نموذجا لتدريس ظاهرة الدول الفاشلة فى جامعات العالم. اليمن لا تعرف طريقا للاستقرار منذ سنوات طويلة، فها هى تصل لتوافق جديد ومن ثم تبدأ معارك جديدة مختلفة لا ينتصر فيها أحد، والعراق شبه مقسم بين شيعته وسنته وأكراده، ولا يجمعهم إلا سلام هش يدرك الجميع أنه لن يدوم طويلا. أما السعودية ودويلات الخليج فتهددها قنابل موقوتة سواء ما يمثله استمرار استيراد ثلاثة أرباع القوى العاملة على طبيعتها السكانية الهشة، ناهيك عن اختلال الهوية المحلية مع الرقص على أنهار ثروة البترول، وانهيار نظم التعليم المحلية بما ينبئ بقدوم أجيال لا تعرف من الهوية العربية حتى لغتها.
•••
ورغم إيمانى الشخصى أن عضال مصر والعرب كبير ومعقد، إلا أننى أرجعه كله إلى «الاستبداد Tyranny». ويمكن تعريف الاستبداد ببساطة على أنه نظام حكم ينفرد بالسلطة فيه فرد أو مجموعة من الأفراد دون خضوع لمحاسبة ودون النظر إلى رغبات المحكومين. ويتميز نظام الحكم الاستبدادى بدرجة عالية من قوة الدولة من ناحية، ويصاحبها غياب الحريات العامة وانتشار الانتهاكات وسط سيطرة الفكر الأمنى على السلطة الحاكمة من ناحية أخرى.
توقع الكثيرون مع بدء ربيع العرب فى تونس ومن بعده مصر قبل ثلاثة أعوام أن يتخلص المواطن العربى من الاستبداد، وحلم الكثيرون بجمهورية جديدة لا يعرف فيها المواطن الخوف من السلطة، ولا تجرؤ السلطة فيها على المساس بالحقوق السياسية والحريات الأساسية، وعلى رأسها حرية التعبير والتظاهر للمواطنين. حلم الكثيرون بإصلاح هيكلى للأجهزة الأمنية لتكون فى خدمة الشعب بدلا من خدمة السلطة وخدمة مصالحهم. وتوقع الكثيرون أن تكون لقيم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية دور أكبر فى مستقبل الشعوب العربية. إلا أن هذه التوقعات والآمال تبخرت مع عودة قوية لمظاهر الاستبداد التقليدية مصاحبة بمعارضة واضحة لأى محاولات تغيير وإصلاح ضرورية للحاق بالعالم من حولنا. ويدعم هذه العودة فئة من منظرى الماضى يدافعون باستماتة عن جهود بناء استبداد جديد فى صيغة عصرية عن طريق توظيف خاطئ لمسلمات على شاكلة ضرورة «الحفاظ على هيبة الدولة» ولا صوت يعلو فوق صوت «الحرب على الإرهاب».
•••
ما تحتاجه مصر والدول العربية الآن هو تطبيق لعدد محدود من المبادئ العالمية السامية بما يحقق توازنا مقبولا بين الحقوق والواجبات ليوفر ضمانا ضد أى استبداد الآن وللعقود المقبلة. منذ مائة عام كتب المفكر العربى الجليل عبد الرحمن الكواكبى أن «المستبد يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من حديد، فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا لما أقدم على الظلم، وكما يُقال: الاستعداد للحرب يمنع الحرب». لذا علينا جميعا أن نرفض دعوات عودة الاستبداد من جديد وأن نختار التأسيس لدولة مصرية ديمقراطية.. لا يوجد بها أى استبداد ولا أى قمع من أى نوع، ولا يظلم ولا يهان فيها أحد مصرى.