لست مولعا كما الكثيرين بمسألة القياس على نتائج الانتخابات التشريعية التونسية الأخيرة سلبا أو إيجابا تفاؤلا أو تشاؤما، ولست أدعى اطلاعا كبيرا على حقائق الوضع الداخلى التونسى ولا طبيعة المزاج الشعبى هناك؛ وإنما الذى يعنينى فى هذا السياق هو التركيز على الفلسفة السياسية لحركة النهضة وكيف تحولت «نقشا» ضمن الفسيفساء التونسية متباينة الألوان والأشكال.
أقول هذا مستبقا من سيقفز تفكيره إلى عمدى التهوين من شأن فوز «نداء تونس» أو هذا الذى يظننى متشفيا فى تأخر «النهضة» فكلاهما ينظر من زاويته الأحادية شديدة الضيق.. والحق أن النتيجة لم تكن مفاجأة ولا الفارق بين كتلتى النداء والنهضة بهذا الحجم الذى يصور الأمر على أنه هزيمة نكراء وانتصار ساحق.
حزب نداء تونس فاز بـ85 مقعدا فى مجلس الشعب الذى يضم 217 مقعدا، تلته حركة النهضة التى حصلت على 69 مقعدا؛ بعد تصدرها المشهد التونسى ـ ولو نسبيا ـ أربع سنوات كاملة عقب الإطاحة بنظام بن على.
إذا أردت الحديث عن هزيمة سياسية فتحدث مثلا عن «الجبهة الشعبية» ـ الائتلاف الذى يضم أحزابا وحركات يسارية ويسارية متطرفة ـ التى احتلت المرتبة الرابعة بـ15 مقعدا؛ أمَّا النهضة فبرأيى حققت مكسبا استراتيجيا ليس بالهين؛ أو هى على أقل تقدير تأخرت إلى الوراء خطوة واحدة تكتيكية.
استطاع الغنوشى الهادئ المخضرم إنقاذ تيار بأكمله من استعداء المجتمع التونسى كله فى أكثر من مناسبة وفوت الفرصة بذكاء يُحسد عليه أكثر من مرة على المتربصين به الدوائر؛ وغاية ما هنالك أن «النهضة» خبرت إدارة الدولة عن قرب وتعرضت لأعنف تقلبات سياسية يمكن أن تقاسيها حركة أخرى؛ فوجئت بالمسئولية الكاملة عن وطن محرر ووسط تقلبات إقليمية أعنف عصفت بزملاء نفس الفكر ورفقاء ذات الدرب.
لم تخسر «النهضة» بل ربحت خمس سنوات من التقاط الأنفاس وترتيب الصفوف وصقل الكوادر وتدوين الدروس المستفادة وتصحيح الأخطاء المتكررة وتجديد دماء القيادة وهى فى نفس الوقت لم تبرح الملعب ولا حتى انحصرت فى زاوية من زواياه؛ بل مازالت حاضرة فى المشهد التونسى وبقوة تجعل «السبسى» يفكر ألف مرة قبل الانفراد بالحكم دونها؛ ساعتها سيعانى الأمرين من معارضة شرسة ديمقراطية لن تترك فرصة واحدة تمر دون النيل منه ومن حكومته حتى تجبره يوما عن التراجع مختارا أو بالصناديق بعد ذلك مجبرا!
لم تخسر «النهضة» وإنما ربحت تثبيتا لقواعد اللعبة السياسية العادلة التى تفتقدها سائر بلاد الربيع العربى سوى تونس لظروف استثنائية تجاوزها الأشقاء بمعجزة حقيقية.