ثلاث نساء من مصر - داليا شمس - بوابة الشروق
الأحد 12 أكتوبر 2025 4:12 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

ثلاث نساء من مصر

نشر فى : السبت 11 أكتوبر 2025 - 6:50 م | آخر تحديث : السبت 11 أكتوبر 2025 - 6:50 م

السيدة الأولى التى حظيت بلقائها الأسبوع الماضى هى الدكتورة منى زكريا، المعمارية القديرة التى استضافتنا فى بيت طولون، منزل قديم يقع فى شارع الدُحديرة، غرب جامع أحمد بن طولون، وقد أعادت ترميمه وتأهيله كى يتحول إلى مساحة ثقافية واعدة، تم الاحتفال بافتتاحها مع بدء انطلاق مهرجان «دى كاف» للفنون المعاصرة الذى تقوم فكرته على الربط بين الفنون والمدينة، خاصة منطقة وسط البلد، وتستمر نسخته الثالثة عشرة فى أماكن متفرقة من القاهرة حتى يوم 26 أكتوبر الجارى.

سطح البيت يطل بالكامل على المسجد التاريخى الذى اكتمل بناؤه عام 879 م. على غرار مسجد السمراء بالعراق الذى استلهم منه مئذنته الملوية. لا نرى شيئا سواه وكأن الأرض قد خلت من حوله، فمساحته شاسعة وتصل إلى حوالى ستة أفدنة. حدثتنا الدكتورة منى زكريا عن حكايتها مع المنزل العتيق الذى اشترته من فترة طويلة أثناء عملها فى منطقة قلعة الكبش ودرب اللبانة. لفت انتباهها بسبب موقعه وصغر حجمه، لأنه طراز نادر فى العمارة يسمى بالمَطلع، وهو أصغر بكثير من الرَبع، ولاتتجاوز مساحته 40 مترًا مربعًا. استخدمته كمكتب هندسى لسنوات، لكن حين اكتظ بالملفات والمشروعات وضاق بفريق العمل قررت الانتقال وتغيير نشاطه كى يصير مفتوحا للجمهور بعد إجراء بعض التعديلات. كان البيت عبارة عن مخزن مهجور منذ عام 1954، بحثت عن صاحبته واشترته منها وقامت بتنظيفه، إذ كان يحوى على 40 طنًا من القمامة المتكدسة طبقات فوق بعضها البعض، والآن صار منزلًا عامرًا بالفن يحمل اسم طولون ويذكرنا بمعناه، فهو مشتق من كلمة تركية تطلق على البدر المكتمل.

• • •

رحت أتأمل طبيعة الحى، فالمسجد المعلق شُيدَ فوق ربوة صخرية كانت تُعرف بجبل يَشكُر، والمنطقة اكتسبت اسم «قلعة الكبش» نسبة إلى أحد التلال التى يقال إنها كانت موقعًا لتقديم الأضاحى فى العصر الفاطمى. وشارع الدحديرة ورد ذكره بهذا الاسم فى كتاب «الخطط التوفيقية» لعلى باشا مبارك، الصادر عام 1886، وعلى الأرجح يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر، فهو طريق منحدر (أى دحديرة باللغة العربية الفصحى) كان الأمراء والسلاطين يسلكونه متجهين إلى الحج أو تقصده الجنازات باتجاه المدافن. منازله تعكس طبقات متعددة فى النسيج العمرانى، وبالتالى نحن نجلس على أطلال مدينة القطائع وغيرها من آثار السابقين، ففى مثل هذه الأماكن كل شبر من الأرض له حدوتة تنتظر من يرويها.. ومن ضمن ما يتداوله أهل هذه المنطقة أن الدعاء فيها مستجاب لأن سيدنا موسى عليه السلام كان يتعبد هنا.

تمنيت لو استجاب الله لدعائى بأن نترك مثل هذه المنازل القديمة لمن يعرف قيمتها، وليس المقصود تفريغها من سكانها الأصليين وبيعها للأثرياء، لكن لمعماريين لديهم رؤية ومعرفة بالتراث يستطيعون إعادة تأهيلها مع الحفاظ على أهلها ووضع احتياجاتهم فى الأولوية وإعادة دمجهم مجتمعيا إذا لزم الأمر، وهو ما فعلته د.منى زكريا فى مشروعات سابقة وغيرها كثر حين أتيحت لهم الفرصة. تخيلت لو تغير مظهر شارع الدحديرة بالكامل وأصبح يشبه هذه البناية المرممة، ثم اتجهت إلى السلم لزيارة المعرض الفنى المقام على طابقين فى إطار مهرجان "دى كاف" وقد نجح مؤسسه ومديره، أحمد العطار، فى توظيف أعمال صديقة قديمة له تعيش فى كندا، وهى الخزافة بسمة أسامة. قطعها الفنية تنتمى للمكان كأنها وجدت فيه منذ الأبد، ربما لأنها لا تعتمد سوى على يديها، ولا تستخدم أى أدوات قد تقلل من أصالة العمل. لمس بعض الزوار مصريتها الشديدة، ورأى آخرون أنها تحمل تأثيرًا يابانيًا واضحًا، وكلاهما على حق، لأن هذه القطع المعروضة تحت عنوان «أصداء: من الذاكرة إلى المادة» تعكس بشكل لا إرادى ذكريات طفولتها فى مصر وهويتها الثقافية التى لم تمحها سنوات المهجر، وفى الوقت ذاته هى متشبعة باختياراتها الجمالية التى تتميز ببساطة يابانية تعتمد التركيز على العناصر الأساسية لإبراز جوهر الأشياء، وهو نمط جمالى يعرف بالحد الأدنى.

• • •

بسمة أسامة تهوى شرب الشاى، كما تقول على صفحتها الخاصة، وتعشق الأوانى التى يمكن أن تحتويها اليد بسهولة، كما تحب النباتات ومراقبة الطبيعة والأشكال الانسيابية فيما حولنا، وتهرب من التعقيدات غير الضرورية. أعمالها تحاور بيت قديم عادت إليه الحياة بسبب الفن مثلما فعلت فى مرحلة من حياتها السيدة الثالثة التى أود التطرق إلى سيرتها، وهى الفنانة التشكيلية جاذبية سرى التى نحتفل بمئويتها هذا العام، فقد ولدت فى القاهرة سنة 1925 داخل أسرة ميسورة الحال من أصول تركية.

فى نهاية الستينيات، وتحديدًا بعد هزيمة 1967، رسمت جاذبية سرى العديد من المنازل القاهرية، وظهرت فى تلك اللوحات محاولاتها فى تجريب الخطوط التجريدية أكثر إلى جانب التكعيبية. ظهر البشر فى تلك الأعمال وقد تحجروا مع البيوت الخربة المهدمة أو كأنهم سجناء داخل حطام المنازل. جاء ذلك كردة فعل للنكسة، ثم فجأة انتهت من رسم البيوت وبدأت فى تأمل الصحراء، كما استحضرت مناظر تجريدية مدينية وقدمت الأفق الحضرى بشكل مبسط خلال السبعينيات. على مدى حياتها المهنية التى استمرت حوالى سبعين عامًا، غيرت أسلوبها كثيرًا، وانتقلت بين المدارس المختلفة خاصة بعد عودتها من الخارج حيث درست فى باريس وروما ولندن، وهو ما نلاحظه من خلال معرضها الاستيعادى المقام حتى 20 أكتوبر فى قاعة الزمالك للفن، بشارع البرازيل.

نرى تأثير نشأتها فى كنف أمها وجدتها، ففى المعرض بورتريه بديع لوالدتها وهى تجلس على الشرفة ولوحات أخرى مبكرة لشخصيات نسائية قوية من كل الطبقات الاجتماعية. نشهد تطورها عبر اللوحات المعروضة وتنامى اهتمامها باللون والخط غير التشخيصيين، بعيدًا عن زخم التفاصيل والزخارف الذى اتسمت به بداياتها. قدرة لامتناهية على التجريب واللعب بهدف الوصول إلى المزيد من الحرية وهى فى عقدها التاسع، هذه الحرية التى تشترك فيها هؤلاء النساء الثلاث على اختلافهن، فالبيوت لا يمكن أن تصير سجنا بالنسبة إليهن، بل مساحات رحبة للإبداع.

التعليقات