شهد اليوم الثالث من فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الثانية والثلاثين، برئاسة الدكتور سامح مهران، إقامة جلسة بعنوان “المسرح والذكاء الاصطناعي”، والتي أقيمت ضمن محور “المسرح وما بعد العوالمة”، شارك فيها كل من د. ألبرت لانج (من ألمانيا)؟وتوماس ايرمر من (ألمانيا) تروستن جوست من (ألمانيا)، وأدار الجلسة د. خالد أمين.
وفي البداية، استهل د. خالد أمين حديثه قائلا: لقد شهد السجال الفكري الراهن حول الذكاء الاصطناعي تحولاً مفصلياً جراء صرخة التحذير المدوّية التي أطلقها أحد آبائه المؤسسين، جيفري هينتون، ففي خطابه الذي ألقاه عند تسلمه جائزة نوبل لعام 2024، لم يقتصر تحذيره على إشكالية الخوارزميات المعيبة والبيانات المتحيزة، بل تجاوزه إلى التنبيه من خطر وجودي يتمخض عن استحداث "كائنات رقمية تفوقنا ذكاء"، تقود مسار تطورها حساباتُ الربح التجارية لا مقتضياتُ الأمان الحضاري.
وأضاف أمين، إن هذا التنبيه الخطير يرتقي بسجالنا من أفقه التقني، المتعلق بتطبيقات السينوغرافيا والدراماتورجيا، ليضعه في قلب الرسالة التاريخية للمسرح: بوصفه مختبرًا تُستحضَر فيه أعتى مخاوف البشرية وتُشرَّح معضلاتُها الأخلاقية الكبرى. ذلك أن المسرح كان على مر العصور ميداناً تُجسَّد فيه المخاوف، وتُساءَل فيه الغطرسة البشرية، وتُواجَه فيه أشباحُ ما هو لا-إنساني. وعليه، ونحن نتأمل مستقبلاً توضع فيه الفاعلية الإنسانية ) على المحك، ما هي المسؤولية التاريخية الجسيمة الملقاة على عائق المسرح - ليس فقط كمستثمر لتقنيات الذكاء الاصطناعي، بل كضمير للأمة ومرآةٍ نقدية لها في تشكيل الوعي الدرامي بمآلات هذا الصراع على السلطة. قبل دوات الأوان وإسدال الستار؟
• المسرح قادر على تحويل خوارزميات الذكاء الاصطناعي من كيانات خفية إلى ظواهر ملموسة
واستهل الحديث تروستن جوست، الدكتور بجامعة برلين الحرة، ورقة بحثية بعنوان "المشاهدة الخوارزمية: التنظير، التحليل، وتجسيد شروط التجربة الخوارزمية" قائلا:
شهدت دراسات الخوارزميات النقدية (CAS) في السنوات الأخيرة تحولا واضحا من التركيز على مقاربات ساكنة وجوهرية للخوارزميات، إلى تحليلات عملية وحساسة للسياق لطريقة عملها وظهورها. أحد أهم أهداف هذا التحول هو نقد استعارة "الصندوق الأسود"، التي لا تعبّر فقط عن حدود معرفية، بل تضع الخوارزميات ككيانات مغلقة ومستقلة وثابتة، مما يوجه البحث دائما نحو الداخل المخفي ويعيق المقاربات التي تدرس كيف تظهر الخوارزميات في الممارسة عبر أبعاد اجتماعية ومادية وزمنية. ورغم أن هذا الإطار أثمر نقاشات مهمة حول الشفافية والمساءلة، إلا أنه في الوقت نفسه يضيق زاوية النظر ويعزل الخوارزمية عن سياقاتها الاجتماعي والتقنية.
في المقابل، يتنامى توجه جديد داخل هذه الدراسات يرى أن الخوارزميات ليست مجرد أدوات أو مصنوعات، بل ظواهر علاقية، سياقية، وعملية. وبالتالي، يتحول السؤال المركزي من: "ما هي الخوارزمية في ذاتها؟" إلى: "متى وكيف تظهر الخوارزمية في التجربة الحية؟". ومن هذا المنظور، تصبح الخوارزمية حدثا متغيرا يظهر ويتجسد عبر تفاعل النشاط البشري، العمليات التقنية، الواجهات، تدفقات البيانات، والأصداء الاجتماعية.
وأضاف جوست: أن الفيلسوف أنطوني لونغو يقدم هذا المنظور في مقاله "كيف تظهر خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي؟" (2025)، ويقترح فهمها كظواهر جينية بالمعنى الفينومينولوجي الهوسرلي، أي دراسة كيفية تشكّل التجربة زمنيا عبر تفاعل الماضي والحاضر والمستقبل المتوقع. فالحياة اليومية تكشف الخوارزميات عبر لحظات شعورية متتابعة تتضمن أيضًا أشكالًا من الخفاء والتأجيل والالتباس.
وتابع، انطلاقا من هذا، يقترح البحث مفهوم "المشاهدة الخوارزمية" كإطار يحدد الشروط البنيوية التي تجعل التجربة الخوارزمية ممكنة. هذه المشاهدة لا تعني المراقبة فقط، بل هي مشاركة جسدية-عاطفية، انعكاسية، وثقافية، تتحقق زمنيًا ضمن ترتيبات اجتماعية وتقنية، وتشكل دورا تأسيسيا في ظهور العمليات الخوارزمية كتجربة معاشة. وتشمل المشاركة هنا كلا من التفاعل النشط وأشكال التلقي السلبي، مثل الانتظار أو التركيز أو الامتناع عن الفعل. ومن خلال هذه الممارسة المجسدة، يصبح “الانكشاف الجيني” للعملية الخوارزمية قابلاً لأن يُعاش ويُختبر.
واسترسل تورستن، أما عن مفهوم "المشاهدة الخوارزمية" فيمكن أن يحقق ثلاث نقاط أساسية أولا: توضيح شروط التجربة الخوارزمية حيث يساعد هذا المفهوم في الكشف عن الشروط التي تجعل التجربة الخوارزمية ممكنة، وعرضها كتكوين يمكن ملاحظته ودراسته. هذه الشروط تشمل مثلاً الترابط الزمني بين المستخدم والنظام، وكذلك العلاقة العملية-الجسدية مع الواجهات، والتي تحدد كيف تظهر الخوارزميات في التجربة اليومية.
وثانيا: خدمة دراسات الفنون الأدائية؛ حيث يوفر المفهوم إطارا تحليليا ولغة جديدة لفهم كيف تجعل العروض الفنية المعاصرة الخوارزميات ملموسة وقابلة للتجربة.
وأوضح أن هذا يفتح المجال لتحليلات أدق للعروض ويساعد الفنانين على استخدام هذه الشروط وتشكيلها فنيا لتوسيع نطاق التجربة. ثالثا: قابلية الانتقال الثقافي، حيث يكشف المفهوم كيف يمكن للممارسات الجسدية وأساليب المشاركة المرتبطة بالتفاعل مع الأنظمة الخوارزمية أن تنتقل إلى مجالات أخرى من الحياة اليومية، حتى تلك غير الرقمية. ما يعني أن أنماط التركيز، التوقع، والانخراط التي تفرضها الخوارزميات يمكن أن تُعاد صياغتها واستخدامها في سياقات ثقافية أوسع.
أما عن دور المسرح والفنون الأدائية فأشار قائلا: انطلاقاً من هذا، لا يكتفي المسرح والفنون الأدائية باستخدام الوسائط الخوارزمية أو الذكاء الاصطناعي كأدوات، بل يمكن أن يتعاملا معها بوصفها عمليات علاقية وزمنية وأدائية. أي أن ظهورها يعتمد على التفاعل بين التقنية والبشر، تمامًا كما يعتمد العرض المسرحي على التفاعل بين الممثل والجمهور.